مَحمد هُوجْلا-كَلْفَت

​​كُتِب هذا النص في اليوم الرابع من عملية حماس والجهاد الإسلامي في “غلاف” غزة وإعلان إسرائيل الحرب على غزة. أضيفت الهوامش والتذييل وتعديلات طفيفة في الأيام اللاحقة. 

على القنوات التلفزيونية الغربية البارزة يلاحَق “السفير” الفلسطيني بسؤال واحد: هل تستنكر ما فعلته حماس بالمدنيين؟ هل تتعاطف؟ ألا تستنكر؟ ألا تتعاطف؟ أإرهاب هذا أم مقاومة؟:

لن أتهافت بالرد على هذا السؤال. أسبق لك أن سألت مسؤولا إسرائيليا إن كان يدين ما فعلته إسرائيل بالأمس؟ إسرائيل التي وضعت الفلسطينيين في غزة تحت الحصار لستة عشر عاما… لا تماثل ولا تناظر بين الاحتلال ومَن تحت الاحتلال، بين المستعمِر والمستعمَر. توقفوا عن طرح هذا السؤال. توقفوا.1

يجيب “السفير” بما أظنه مفتاح تحرير عقولنا وضمائرنا في هذه اللحظة، بل وأكثر من ذلك.

ولكن لنعد أولا بالرغم من كل ذلك، بالرغم من (أنف) “السفير”، إلى السؤال: مع من نتعاطف؟ ومع ماذا؟ من وماذا نستبشع؟

أنا – كاتب هذه السطور – أتعاطف من اللحظة الأولى، من اللحظة صفر، مع كيان أو معنى مجرد اسمه فلسطين، ثم، على مستوى أقل تجردا، يبدأ هذا التجريد في التشكل ليصبح شيئا ما اسمه الفلسطينيون، ليس للحظة واحدة لأنهم عرب أو مسلمون. يتخذ هذا التجريد، الفلسطينيون، شيئا فشيئا شكلا محددا/مجردا هو الآخر: المستعمَرون، المسلوبون، المحاصَرون، المفقَرون، المقهورون، المحكومون، المبادون والمهجَّرون والمذبَّحون في تاريخ حاضر ومستمر من المذابح الضخمة المفتوحة على المزيد… مذابح ومحارق عالمنا الحديث الصناعي التي يقف في صدارة صورتها المفزعة المشينة المزلزلة ضحايا الاضطهاد الأوروبي والإبادة النازية من اليهود. هؤلاء في صلب ولحم ودم هذا التجريد الآخذ في التشكل والتحدد الذي أتعاطف معه وأناصره وأنحاز إليه وأنتمي وتنبني عليه كل مبادئي ومواقفي وذاتي. مع إنسانية تريد لهم حقهم الكامل ووقف إنتاجهم وإعادة إنتاجهم واستهلاكهم كضحايا، أقف وأصطف وأتماهى وأفكر وأشعر و… أفعل–أو على الأقل أرغب في الفعل. وإن لم يكن ففي التعبير. وإن لم يكن ففي التفكير.

على مستوى آخر وموازٍ تماما من وعيي، مادي ملموس مباشر، على الأقل بقدر مادية الأشخاص في الصور وبقية عناصر الصور، لكنه بأي حال من الأحوال بعيد كل البعد عن التجريد المعقد المتشكل إياه، أتماهى مع المدنيين سكان الكيبوتسات/المجتمعات/البلدات/القرى/المستعمرات/المستوطنات، مع تلك الأسرة والجدة والأطفال أولئك الذين أعرفهم جيدا، مع حضور مهرجان الموسيقى في الصحراء الذين يشبهونني ويشبهون أصدقائي تمام الشبه (وليس فقط أولئك الذين في الكومباوندات)؛ الحالمين، الهيبيين، محبي السلام والموسيقى، أصحاب الثقافة العالمية المعاصرة، متنوعي الجنسيات والهويات الجنسية، التقدميين والليبراليين والمناهضين لنظام الحكم الدكتاتوري واليمين المتطرف والصهيونية والتجنيد الإجباري والوقود الأحفوري، الذين كان بينهم بلا شك من يتعاطون موادا ربما أعرف بعض أسمائها، وبلا شك أعضاء علنيون من مجتمع الميم، وبلا شك مؤثرون على يوتيوب وتيك توك وإنستاغرام، وعلى وجه اليقين فنانة وشم ألمانية، شابة صغيرة إلى حد مؤلم.

أنا قريب من هؤلاء كفاية من اللحظة الأولى أيضا، ولست قريبا بما يكفي على الإطلاق من مهاجِميهم. لا يتطلب الأمر تمرينا للنظر بعين كائن فضائي. ودعك من أن المهاجَمين أنفسهم يجمع بيني وبينهم الشاطئ نفسه وموسيقاه الحية نفسها في نويبع، بينما لم ولن يجمعني بالمهاجِمين أي شاطئ أو زنزانة. أنا بشخصي ومن موقعي هذا أرى بالعين نفسها وأشعر بوجداني هذا نفسه ما يلي وبما يلي. المهاجمون والخاطفون ليسوا فقط فقراء، مبهدلين، بل ويبدو، بل يظهر بجلاء ولا يمكن للعين أن تخطئ ذلك، أنهم خارجون لتوهم من جحيم. إنه على وجه اليقين جحيم الفقر، وبالأحرى جحيم فقر، فقر لا أعرفه، لا نعرفه. نقرأ عنه على الأكثر أو نشاهده في الأفلام ونعرفه من بعيد جدا فنغضب ونرتعب ونصبح ما نحن عليه ونطالب بالتغيير.

لكن الظن بأنه جحيم هذا الفقر وكفى لا يليق بتفسير ما نشاهده. هؤلاء خارجون لتوهم من (وعائدون، إن عادوا، عاجلا أم آجلا، إلى) جحيم مركب، مكثف، مخلد، متعدد الطبقات والدرجات، مَعيش ومختبر في كل لحظة من جميع لحظات عمر كل واحد فيهم وكل من عاشوا وسيعيشون معهم. جحيم الفقر المطلق، والحصار المطبق، والتخلف الشامل المفروض بقوة أعتى الأسلحة، واليأس والإذلال المتطاول اللا نهائي. يمكننا الإجمال والقول بأنه جحيم الاستعمار. الاستعمار الذي يظن بعضنا وهما وضلالا أنه هناك بعيدا في الكتب، في الذاكرة، في التاريخ. الاستعمار، لا الاحتلال ببساطة وحسب، الذي يتحدث عنه “السفير”. غير أنه كذلك استعمار لا نعرفه بالضبط أو حق المعرفة. فلكي نعرفه يتعين أن نكون هناك والآن، غزاويين في غزة، أو على الأقل فلسطينيين في مخيم ما في بلد تحكمها دولة “صديقة” ما، وإن لم يتيسر ففلسطينيين حسني الحظ أكثر، في درك من جحيم أفضل كثيرا، في الضفة أو في “الداخل” أو في “الخارج”.

كما أن أغلب الظن أن “السفير”، وهو يقول قوله الفصل هذا، لا يدرك صعوبة ما يطلبه من محاوريه، أو مستجوبيه للدقة، أو مستعمِريه ومستعمِرينا لتمام الدقة، بل صعوبة ما يطلبه علينا نحن، إخوته المستعمَرين. وبعبارة أخرى، فإن جاز القول إننا الآن في العالم منقسمون أمام هذه اللحظة بين المنفعلين المغيَّبين عن السياق المغيِّبين للسياق (مع الفلسطينيين ضد الإسرائيليين، مع الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، مع المقاومة ضد الإرهاب، إلخ)، وبين القائلين بالسياق – ومنهم “السفير” – أيا يكن معسكرهم وخندقهم وانفعالهم، فيتعين على هؤلاء المستحضرين للسياق، القائلين باستحالة أي موقف أخلاقي سياسي من دونه، أن يعترفوا بأنهم هم أنفسهم، وعلى مستوى أساسي من المستويات، يجمعهم إلى هذا الحد أو ذاك بالفريق الأول منكري السياق، أنهم جميعا، أي أننا جميعا، خارج السياق. نحن خارج السياق طالما أننا خارج غزة.

السياق الذي يجتهد أفضل من فينا في التمسك به وتطوير علاقته به يظل، على كل تعقيده وثرائه وفداحته، سياقا ذا طابع ذهني في الأغلب الأعم، مستقى من معرفة، لعلها حميمة إلى هذا الحد أو ذاك، بوضع المستعمَرين في غزة أو في باقي الوجود السكاني الفلسطيني أو في الشتات. أما السياق المباشر والحميم حقا والذي لا يملكه واحد منا ولا يستطيع إليه سبيلا فهو حياة الإنسان في غزة. ولنعد إلى الصور الملتبسة المقلقة بعمق والمؤرقة، صور هؤلاء الخارجين لتوهم مؤقتا من ذلك الجحيم.2

أحد المصادر الأساسية لهذا التأريق الكابوسي الذي لصورهم هو أنها تخاطب عميقا داخلنا صورا سبق أن كونت وعينا وكوَّنها وعينا بأنفسنا ومواقعنا في العالم والمجتمع، وفي مواطن أبعد من إدراكنا للتشابه الغريب بين ما نراه وما كانت ستفعله بنا الكتائب والأحزاب والجمهورية الإسلامية لو أننا نحن في أرضنا نحن احتفلنا أو أردنا ممارسة حياتنا. تستحضر صور المهاجمين والخاطفين على الفور صور الداعشيين، صور إرهابيي ١١ أيلول/سبتمبر، صور مطلقي النار في حانات المثليين في أورلاندو وكولورادو، وصولا إلى صور الهمج الدمويين في كل مكان وزمان؛ صور الغوغاء والبلطجية والمعتدين وعصابات الاغتصاب الجماعي في الشوارع شرقا وغربا في المظاهرات والغضب الشعبي ورأس السنة في باريس ومناسبات أخرى؛ صور المشردين الخطرين والعشوائيين في الأحياء الفقيرة أحياء الجريمة والانحطاط والظلام الذين نحرص على إبعادهم عن أحيائنا المحترمة النظيفة وحياتنا المسورة المعقمة أثناء التحريض ضدهم والتأفف منهم أو الإحسان عليهم أو حتى الإنعام بوظيفة خدم لنا بشروط أسوأ من شروط العبودية؛ صور من لا يحضرون ولا يمكن أن يحضروا ولا يمكن أن نتخيل حقا أن أو نسمح لهم بأن يحضروا حفلاتنا من أجل السلام والإبداع والمحبة، ناهيك بأن يدعوهم إليها أحد.

هذا هو بعض الأرق والتمزق الذي يحل ويفتك بمن يتجاوز اللحظة الصفرية الأولى للابتهاج بالحرية والنصر المبين. سيرتبك ويتراجع خطوة خطوة ثم لا يعرف إلى أين يذهب ثم يغضب بسبب كل عدم الراحة هذا ويتخذ موقفا ما كافرا بكل شيء وناقما على كل شيء أو مهرولا إلى اتساق مريح وحاسم وعبثي وزائف، وعنيف للغاية بدوره دون أن يدري. لكن الالتباسات لا تتوقف هنا؛ لنواصل متابعتها قليلا فقط. هؤلاء الذين أرسلهم أبو عبيدة ومحمد الضيف وإسماعيل هنية يشبهون من أرسلهمن ياسف سعدي ورفاقه لتفجير ملهى تعزف به موسيقى راقصة محببة وترقص فتيات فرنسيات منهن العاملة والطالبة بالغات البراءة واللطف وُلدن في الجزائر، كما شاهدنا في فيلم يمثل فيه سعدي نفسه دوره وتبعثرت أفكارنا ومشاعرنا أشلاء، وتظل تتبعثر، حتى قبل تبعثر أشلاء الضحايا الأبرياء. (بحسب سعدي لاحقا، كان هو ورفاقه معذَّبين كذلك بالفعل ومن قبل التنفيذ، فكيف لا يشعرون بالعذاب؟). فمع من تقف؟ ومع من تتعاطف؟ ومع ماذا؟ وما الذي تستبشعه بالضبط في كل هذا وتريده أن يتوقف الآن وحالا وفورا دون مزيد ودون تبرير؟

تستمر الالتباسات المؤرقة، وهي في الحقيقة بعض من الكثافة التي تتشكل وتخلق النطفة الأولى فالعظام لحما ودما وروحا قلقة مسكونة بآلاف الأشباح، بعض من “السياق”. هؤلاء إرهابيو ١١ / ٩ على الأرض الإسرائيلية3، كلا بل هم (أو: لكنهم أيضا) جنود ٦ أكتوبر المصريون على أرضهم المحررة جزئيا ومؤقتا. في معرض إجابته على مشارِكة عبرت ببلاغة وشجاعة عن ارتباكها من اليوم الأول، يدفع خالد فهمي بما هو أبعد من الرمزية والتزامن الخاصين بحلول خمسينية حرب أكتوبر/تشرين (وذلك في سياق مناقشة لغموض هذه الحرب المستمر في ظل غياب/تغييب الأرشيف والوثائق والحرية والديمقراطية)، ومن دون نبرة انتصارية تسود – على نحو مفهوم – منذ السابع من أكتوبر/تشرين الفلسطيني. فكما كان المعروض على المصريين بعد الهزيمة هو اللا شيء، وكانت حرب أكتوبر محاولتهم لتغيير هذا الوضع واسترداد شيء، هذه هي محاولة الفلسطينيين، الذين يُعرض عليهم لا شيء هو أكثر لا شيئية بمراحل، لتغيير الوضع واسترداد شيء. هذا ما نعلمه، أما أبعد من ذلك فلا نعلم الشيء الكثير. يصدق عدم المعرفة هذا على الحدث الجاري منذ ساعات كما يصدق على الحدث الذي يمر عليه خمسون عاما، كل على طريقته وبمعانيه وترتباته (المتداخلة).4 نعلم أن إسرائيل ستنتقم (أكثر مما انتقمت) – وهو ما أربك المشارِكة الشجاعة. نعلم أن هذه المرة قد تكون مختلفة لأن “الدروع البشرية” لم تعد فقط فلسطينية لا وزن لأعداد قتلاها ومشرديها ومصابيها من كافة ضروب الإصابات وخاسريها من سائر أنواع الخسارة. نعلم، أو نخشى، أن هذا سيكون السابع من تشرين بنيامين نتانياهو، المعجزة التي ستنقذه، بجملة التناقضات والمفارقات الساخرة المؤسفة، وتنقذ حكمه المضعضع والمنهار بشتى المعاني، وتنقذ نظامه ودولته وجيشه وتوحد الإسرائيليين فجأة إذ “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.

نعلم أن أنظار العالم الآن ستشاح عن مصر وتوكيلاتها وانتخاباتها، وأن أغلب الظن هو احتياج المجتمع الدولي بصمت بليغ إلى نظام جار صديق للدولة المهدَّدة المعتدى عليها وإلى الاستقرار، استقرار ليس هو الاستقرار عندي وعندك ولمصلحة الشعوب. نعلم، أو يعلم بعضنا، أن اقتراح أي شيء آخر لا يودي بأهل غزة إلى التهلكة ويضحي بهم على غير إرادتهم إلى آخره يعني عمليا وحرفيا مطالبتهم، بل أمرهم، بالاستسلام إلى الأبد، بالرضا بالمساعدات الملقاة داخل القفص–حفلات السلام غير المرحب فيها بهم ليست في رعيم وحدها: بعضها في الرياض؛ أولها في القاهرة. وبينما يتعرف بعضنا في الحدث على التحرير والأمل، يتعرف بعضنا الآخر على الانتحار واليأس وليس حتى هدم المعبد على الجميع، ويتعرف بعضنا على هذا وذاك وسواهما في آن واحد (كما فعلنا أمام احتجاجات الإيرانيات والإيرانيين5). يبحث الكثيرون منا عن الاتساق بإصرار وصرامة ودون تشككات وصدوع، أو يدعيه. المتحدث باسم المقاومة أو الإرهاب يؤكد أن الأسرى يعامَلون وفق مبادئ الشريعة الغراء التي تصون سلامتهم وكرامتهم (بينما نرى بأعين رؤوسنا أن هذا ليس هو الحال بالضبط بالضرورة بدليل الصور التي نشرها المقاومون أو الإرهابيون). يطمئننا المتحدث الآخر إلى أن “المستوطنين” ليسوا مدنيين، ويذهب آخر باطمئنان أشد إلى أن الإسرائيليين كلهم عن بكرة أبيهم مجتمع معسكَر. تُصدَم وتحتج وتخرج عن “الصف” امرأة عربية ترى وحوشا ذكوريين كارهين للنساء و”المبادئ لا تتجزأ”. يدعو مفكر إلى الاتزان والتعقل والحوار بشأن مسألة شرعنة أخذ رهائن مدنيين وقتلهم ونزع إنسانيتهم. ويختلط الأمر تماما على نفر من الإسرائيليين كانوا حتى ليلة الجمعة أو السادسة صباح السبت ضد نتانياهو أو جيش الدفاع نفسه على طول الخط، منحازين إلى إسرائيل ديمقراطية للجميع يحكمها القانون وقضاؤها علماني مستقل، إن لم يكن إلى مقاطعتها وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. ومن ورائهم جميعا، يعلو صوت “العالم” دون لَبْس مدينا الإرهاب ومتضامنا مع الضحايا (الإسرائيليين حصرا) ومقدما المساعدات (لإسرائيل قطعا، للفلسطينيين ربما وللأسف وعلى استحياء ومع تبريرات).

أقول إسرائيل والفلسطينيين لأنه لا وجود لفلسطين. ليس للفلسطينيين دولة بحيث يكون لهم جيش نظامي منضبط يمكن أن يساءَل في ممارساته ويخضع للقانون الدولي (“سنجري تحقيقا”)، أو يقتل لهم أعداءهم المدنيين من بعيد وبالجملة وبأناقة وبمصاحبة آلة دعاية كبرى. ليس للفلسطينيين كفاح مسلح يساري أو ديمقراطي أو علماني غير إسلامي ومن ثم غير إرهابي إذْ محت وجوده إسرائيل وحلفاؤها وحلفاء فلسطين فأحيوا الجهاد الإسلامي، وتكفلت أوسلو بإفلاس واغتيال (سياسيا وأخلاقيا) الحكم الذاتي الكاريكاتوري الذي تمثله حكومة يصفها المحللون على نحو روتيني بالعاجزة ومنبتة الصلة والفاسدة وغير ذات الشرعية. ليس للفلسطينيين اقتصاد بحيث تُنظَّم لهم حفلات ترانس في الصحراء يتأملون فيها المُسْتَعِر الأعظم ويحضرها جمهور كوزموبوليتان، وبحيث يستقدمون للعمل في مختلف القطاعات رعايا أجانب، وبحيث يضمن لهم كل ذلك اصطفاف دول العالم ومصالحها ونخبها وجماهيرها الرافضة للإرهاب الإسلامي. ليست لديهم، على النحو نفسه بالضبط، ولا لدى بقيتنا من المستعمَرين، رأسمالية إمبراطورية كي تطبَّق عليهم حرية التجارة العالمية ومعايير النجاح والفشل والتقدم والتأخر ومبادئ الحكم الديمقراطي الحديث كما في البلاد التي أخذت وقتها ومستعمراتها ثم أدانت، وأدننا معها، الكرابيج العثمانية والسوفياتية والصينية.

وليس من الإنسانية، وإنما من الصفاقة والعته، أن نتخيل وننتظر كائنا آخر غير هذا الوحش، الإرهابي، المحروم من فرص التعليم والرقي والعلاج والتنفس والعمل، المفعم بالغل والحقد والكراهية والمتعطش للانتقام والحرية، خارجا على هذا النحو من هذا السجن الجحيمي الأبدي، كائنا من شأنه أن ينضم إلى الحفل – فارضا نفسه فرضا على كل حال ومثيرا الرعب والرفض لا يزال وضد القانون والجغرافيا والعقل – ليوزع الزهور ومطالبه على الحضور وسكان الكيبوتس أعزل إلا من ابتسامته غاضا البصر عن زوجة المستعمِر… أو على الأقل ملتزما باستهداف المواقع العسكرية والجنود والشرطيين ومن حمل السلاح.

يهزأ الواقع الإنساني بإنسانيتنا هذه، إنسانيتنا الأحادية الآلية البليدة الجبانة الكسولة، وبكلمة واحدة إنسانيتنا المستعمَرة (ومن مرادفاتها الرائجة: نسويتنا البيضاء). يهزأ السياق باتساقنا وأناقتنا، بكل من يضع الساق على الساق فيما هو غياب السياق ووهم الاتساق.

ما يدعونا إليه الوحش الفلسطيني في مواجهة الوحش الإسرائيلي الذي صنعه هو إعادة التفكير في الوحشية والتوحش وإمكانية النجاة منهما. ما يدعونا إليه “السفير” هو التوقف عن تعاطي هذا الوهم الاستعماري وتطوير إنسانية جديدة6، تبحث بضمير ووعي يقظين قلقين عن السياق لا عن الاتساق، وتمضي مع المهاجِمين الرعاع هؤلاء ومع مخطوفيهم الذين فقدوا سلامهم وغفلتهم، سَكْرَتهم وأناقتهم، تمضي مبهدَلة مثلهم جميعا، مثخنة بالسياقات ومثقلة بالتاريخ والحاضر، في طريق أفضل وإلى مقصد أفضل، لا يكون سجنا داخل سجن ولا تؤخذ فيه رهينة ولا تهنأ بنعيم السكينة الوضيعة الكاذبة خارج وداخل الأسوار.

تذييل

يمكن للقارئ الباحث أو المفتش عن موقف واضح حاسم مختصر يخص الكاتب أن يتجاهل النص برمته ويكتفي بهذه النقاط الأربع على سبيل البيان المقتضب:

  1.  كل ما نفذه التنظيمان في السابع من تشرين أول/أكتوبر ضد الجيش الإسرائيلي والشرطة هو عمل رائع ومقاومة محضة لا تشوبها شائبة.7
  2.  كل ما حدث في اليوم نفسه من قتل جماعي أو هجوم مباشر أو خطف أو تعذيب بحق أي إنسان لا يرتدي زيا عسكريا ولا يحمل السلاح هو جريمة إرهابية نكراء تشمل في الأرجح مجازر وفظاعات بدم بارد وعلى كل مناصر للفلسطينيين أن يسعى إلى فتح تحقيق جاد.8
  3.  إسرائيل دولة ثيوقراطية عنصرية تمارس إرهاب الدولة، قامت وتقوم على الاستعمار الاستيطاني وإبادة الفلسطيينين والتطهير العرقي على نحو يتجدد، ورد فعلها منذ السابع من تشرين أول/أكتوبر لا يدخل إلا في هذا الإطار وليس دفاعا مشروعا عن النفس، وعلى كل مناصر لليهود والإنسانية جمعاء أن يسعى إلى وقف الحصار والتهجير والقصف الآن.
  4. على كل مناصر للفلسطينيين والسلام القائم على العدل مناصرة حل الدولة الواحدة العلمانية الديمقراطية من النهر إلى البحر، عن طريق هدم الأسس الصهيونية والعنصرية والطابع العسكري لإسرائيل، بما يشمل حق العودة للفلسطينيين، وبما يشمل محاكمة إسرائيل على جرائمها منذ نشأتها وجرائم تأسيسها، والتخلي في المقابل عن أي مشروع تحرير واستقلال قائم على تصور معادٍ لوجود اليهود الإسرائيليين الحاليين في إطار المواطنة والمساواة الكاملة ودولة القانون. 
  1. تلخيص لما قاله “السفير” في مقابلات عديدة. أضع كلمة “السفير” بين مزدوجين لأن الحكم الذاتي الفلسطيني وشبه الدولة الفلسطينية القائمة على أساس أوسلو كل هذا موضوع الآن على الأقل بين مزدوجين في سياق السقوط النهائي لحل الدولتين. ↩︎
  2. يعمل هذا الجزء المحوري من النص بالأساس على تحليل نفسي-طبقي للصور وتلقيها (واستدعائها في الخطاب والذاكرة وتراكُبها في المخيلة الجماعية) وبشكل انعكاسي ولكن جزئي، بالإضافة إلى رصد عمليتين فكريتين مترابطتين برزتا بقوة في السجال وردود الفعل: من ناحية الالتباسات والتشابهات المتناقضة والمؤرقة، ومن ناحية ظاهرة المقارنات التاريخية المكثفة أو المفرطة وما قد تؤديه من وظائف وأغراض متضادة ومتعارضة (وليس “تكرار التاريخ لنفسه” فعليا في حد ذاته كشيء موضوعي، وإن كانت “هزلية المرة الثانية”، جريا على قول ماركس الشهير، متحققة هذه المرة بسبب تعدد المقارنات والاستدعاءات للمرات “الأولى المأساوية” من قِبل جميع الأطراف). ↩︎
  3.  الكلام يومئ إلى ظاهرة استدعاء المقارنات التاريخية النشطة حاليا: مثلا مقارنة “غيتو” غزة بوارسو من ناحية، مقابل ترديد أن مشاهد اصطياد أو حتى مجرد اختباء المدنيين اليهود في المخابئ يستدعي الذاكرة الجماعية عن الأساليب النازية. وعن مشكلة هذه المقارنات التاريخية، الحاضرة بشدة منذ السابع من تشرين أول/أكتوبر، وتحديدا بالنسبة لمقولة “١١ أيلول/سبتمبر الإسرائيلية”، انظر:/ي Chris Lehmann, “The Limits of Historical Analogy”, The Nation, October 13, 2023 https://www.thenation.com/article/world/israels-911
    ↩︎
  4.  استمع/ي إلى لقاء لاحق مع فهمي مخصص للحدث الفلسطيني نفسه: “خالد فهمي.. عن طوفان غزة، ومرويات إسرائيل الجديدة“، صالون السكري Sokkari Salon، ١٥ تشرين أول/أكتوبر ٢٠٢٣.
    ↩︎
  5.  انظر/ي هنا وهنا وهنا وهنا، للاستماع إلى نقاش بين بلال فضل وفواز طرابلسي يطرح فيه الأخير (وهو مؤلف كتاب عن أمل لا شفاء منه: يوميات حصار بيروت ١٩٨٢، رياض الريس، ٢٠٠٧) أهمية فكرة المقاومة اليائسة مقابل إشكاليات فكرة الأمل. عصير الكتب، الحلقة ١٠٠، ٢٠١٧. ويقول جون برجر: “في مواجهة حقائق عديدة، ليس يوجد أي حل فوري. إن مصطلح “حل” لا يمكن أن يرقى إلى مستوى المأسوي. يترتب علينا نحن أن نلمسه وأن نمكنه من أن يلمسنا. إن تسميته يمكنها أن تجعل منا بشرا مختلفين. المأسوي، إذ نسميه، يبقى مأسويا – لكنه يفقد أثره بما هو مجرد أخبار سيئة. إذّاك فقط يمكننا أن نفكر في قيام سياسة واقعية.”، “أخبار سيئة“، بِدَايَات، العدد ٣٣، ٢٠٢١.
    ↩︎
  6.  في تصديره لطبعة ٢٠٠٣ من كتابه الشهير عن الاستشراق (Edward Said, Orientalism, Vintage, London, 2003, p.xxix)، يقول إدوارد سعيد: “النزعة الإنسانية هي المقاومة الوحيدة التي لدينا – وسأتمادى لأقول النهائية – ضد الممارسات وأشكال الظلم اللاإنسانية التي تمسخ التاريخ البشري.” انظر/ي نقد تيري إيغلتون للإنسانية عند سعيد في مقال بعنوان يصفه بأنه (مستدعيا كتاب نيتشه بالعنوان نفسه) “إنسان مفرط في إنسانيته”، وهو مقال ينطلق من مراجعة لمجموعة مقالات لسعيد منشورة بعد وفاته، ويقارن ما فيها بإنسانية جذرية مختلفة تظهر في إنتاج سعيد الفكري عن فلسطين. Terry Eagleton, “Human, All Too Human“, The Nation, May 10, 2004 issue. أدفع في هذا النص بأن أحد أهم تطورات ما بعد الهجوم المفاجئ التاريخي في السابع من تشرين أول/أكتوبر – تطور ينضوي تحت بند “إحياء القضية الفلسطينية” – هو تبلور نزعة إنسانية جذرية وجديدة نوعا وكما نحو “مسألة” فلسطين، ومن ضمن ذلك ما يعتبر فيليب وايز، مؤسس موندوايس المنبر البارز المناهض للفصل العنصري والنظام الإبادي الإسرائيلي، أنه قد يكون الشيء الأوحد الذي “يبعث على الأمل من هذا [النكبة الماثلة أمامنا في أعقاب العملية الفلسطينية]، … بصيص الوعي بالتاريخ الفلسطيني الذي يظهر في الإعلام السائد. أرى نورا عريقات ومصطفى البرغوثي على شاشة التلفزيون يشرحان الاضطهاد الذي يتعرض له شعبهما. النيويوركر تستمع أخيرا إلى طارق بقعوني. رواة السردية الفلسطينيون الشجعان يخرجون التقارير من تحت القنابل.” الجدير بالملاحظة أن مقال وايس، الذي يسمي الأشياء بأسمائها دون لبس فيما يخص الرد الإسرائيلي، يعبر عن “تحطم إيمانه” بعد العملية بإمكانية السلام والانتصار الذي كانت حركة لا عنفية مناهضة لإسرائيل آخذة في تحقيقه، وعن اعتقاده بأن هذا التحطم والانهيار آخذ الآن في اللحاق بهذه الحركة نفسها.
    ↩︎
  7.  وصف بايدن ما فعلته حماس بأنه “شر محض لا تشوبه شائبة”. للاطلاع على نقاش لتاريخ استخدام الإدارة الأمريكية الحديث بلغة الخير والشر، انظر/ي الفصل الأول من ترجمتي لكتاب الشر: رؤية فلسفية، لوك راسل، دار الكرمة، ٢٠٢٣، وملاحظتين متعلقتين هنا وهنا.
    ↩︎
  8. تحديث بتاريخ ٣٠ يناير/كانون الثاني ٢٠٢٤: صرت أميل إلى صيغة مختلفة لهذا البند من قبيل: “كل ما يُزعم أنه حدث في اليوم نفسه من قتل جماعي أو هجوم مباشر أو خطف أو تعذيب بحق أي إنسان لا يرتدي زيا عسكريا ولا يحمل السلاح وبما قد يشمل مجازر وفظاعات بدم بارد على كل مناصر للفلسطينيين أن يسعى إلى فتح تحقيق جاد فيه وإلى إيجاد تمييز دقيق قدر الإمكان بين المقاومة المشروعة وغير المشروعة أو ’الإرهاب’.” ↩︎

علّق/ي

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.