إعادة تدوير الثقاب

Instructions for a Light & Sound Machine (Peter Tscherkassky, 2005) on Dailymotion

من خلال إعادة تدوير تراث السينما المصرية السخيف والمثير لمشاعر متناقضة، منها الحنين للأسف، يؤكد حسين الإمام («زي عود الكبريت»، ٢٠١٤) على أن أعواد الكبريت قد تشتعل مرة أخرى، وأن لا عيب في هذا، بل تصبح قيمتها أكبر.


يصل التدخل في قلب المحاكاة الهزلية إلى جانب تخليق قصة واحدة من قصص إلى حد تصميم متاهة مغشوشة، وكابوس مهلوس، يضحك ويرهق ويسمم بجرعات خفيفة غرضها أن تكون ترياقا.


بانتهاء الفيلم إلى “بستان الاشتراكية” وافتقاد الراوي المجرم ذكريات الماضي الجميلة يصبح هذا عملا فريدا عن الماضي المصري الإجرامي سياسيا واجتماعيا في ظل أنظمة وثقافة سائدة تشوهت فيها الوطنية والرابطة الأسرية والاجتماعية إلى سراديب رهيبة من الأكاذيب والأسرار والتشوهات العميقة والابتذال وسفاح المحارم وتحالف الأعداء كما يُظهر داود عبد السيد بلغة كوميدية أخرى في «مواطن ومخبر وحرامي» (٢٠٠١)، على عكس نسخة الحرب الأهلية الصريحة في نهاية «عودة الابن الضال» (يوسف شاهين، ١٩٧٩).


إمكانية الكابوس المتاهي متحققة بكاملها في «تعليمات لماكينة ضوء وصوت» Instructions for a Light and Sound Machine (٢٠٠٥)، كابوس مغلق في هذه الحالة، لراعي بقر وحيد ضال ملعون، لكن فيديوهات عمر عادل على يوتيوب تلامسها في منطقتها الساخرة الخاصة وتلاعباته العابثة شديدة الدهاء.


وترينا أفلام علاء عبد الحميد الدراسية (لصورة الفنان في السينما المصرية) إمكانية أخرى لإحياء الأرشيف السينمائي هذا الذي قوامه الأفلام التافهة التي تبث وتعيد إنتاج التخلف على مستوى الأيديولوجيا والذكاء معا. أما «عندي صورة: الفيلم رقم ١٠٠١ في حياة أقدم كومبارس في العالم» (٢٠١٧) ففضلا عن تأملات محمد زيدان في السينما المصرية وحب هذه الأفلام وربطها بالتاريخ الحديث وفكرة البطل الزعيم والشعب في دوره الثانوي، فهو ينتصر لبطله الذي لم يعد ثانويا إذ تُنتشل مشاهده العابرة من الأفلام وتوضع أمام تسجيلات له في أواخر حياته الحقيقية كممثل معتزل لتكون سردية هجينة بكل المعاني.


قد تكون أكبر محاولة ناطقة بالعربية لعمل شيء من كل هذا هي «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» (رانيا إسطفان، ٢٠١١)، لكنها محاولة غير مقنعة ولا مرضية بالمرة، لأنها فيما يبدو غارقة في الحنين وحب السينما وحب سعاد حسني وحب الأرشيف وخالية من التفكير والنقد.


انخفاض جودة المقاطع المختارة من الأرشيف في فيلم الإمام قد يكون اختيارا يشير إلى مآل أصول هذه الأفلام في مملكة صحراء النفط، ويجعلنا نتساءل عن مدى أحقيتها بالترميم (إن لم يكن لفنيتها المطعون فيها فلأغراض أخرى). لكنه أولا وأخيرا جزء من اختيار حياة الإمام الابن وعمله: بخفة، دون جدية شديدة.

[تحديث: لمطالعة تأمل وتحليل أشمل للتجارب المصرية والعربية ضمن هذا الغرض المحدد لهذا النوع من الأفلام انظر هنا وهنا، حيث توجد مادة بحثية عملت عليها أثناء إعداد وتصميم برنامج أفلام أقيم بأبو ظبي في نهاية ٢٠٢١.] 

صرخة افتتاح السفارة الإسرائيلية

[شغّل الفيديو، وبعد الانتهاء منه شغّل التسجيل الصوتي، ثم شغّلهما معا بشكل متزامن تماما إلى النهاية. ويمكنك أيضا الاطلاع على تفريغ للتسجيل الصوتي أدناه.]

يوم افتتاح السفارة الاسرائيلية في القاهرة أنا كنت طالبة بالجامعة ووو وكنا مروحين على البيت وواقفين على الشباك عشان إحنا بنسكن في عمارة… بيت الطالبات مكون من تلات طوابق والسفارة افتتحت في فيللا من طابق واحد بالضبط جنب ال بيت الطالبات واحنا متل كل الناس وقفنا نتفرج على الافتتاح ووو طبعا ألم شديد فَ ابتدا ال… طبعا الصحفيين وكل الناس واقفين وابتدا العلم الاسرائيلي يرتفع آآآ فاحنا ما اتحملنا المنظر وكلنا… كان بيت طالبات عربيات يعني يعني سودانية فلسطينية سورية أردنية كل الجنسيات العربية… فكنا واقفين على الشباك ولما ابتدا العلم الاسرائيلي يرتفع آآمم ما ما قدرنا نتحمل المنظر هذا وكلنا بدون ترتيب وبدون تخطيط صرخنا وكأن واحد مات يا لهوي يا ولدي مش عارف شو فكل الكاميرات اتجهت على الشباك… بيت الطالبات وصورتنا وطبعا طلعولنا المصريين آآآ الشرطة المخابرات يمكن ما باعرف وبهدلونا وهيكه. المهم يعني باختصار أظن ‘نه ضوّعنا عليهم اللحظة وهاي كانت ردة الفعل الوحيدة لافتتاح السفارة يعني بس فعلا الشيء اللي كان غريب إنه ما اتفقنا وفجأة شعورنا كان عربي واحد كله موحد ما قدرناش نتحمل إنه يرتفع علم إسرائيلي في سماء القاهرة اللي بنحبها. تحياتي.

الاعتصام لا شيء. الاعتصام كل شيء.

  •  في المستوى الأول، يهدف كل اعتصام في ميدان عام إلى خلق أزمة والحفاظ عليها. وجود جماهير في الشارع ليل نهار (يُفترض أنه) يقطع استمرارية الحياة العادية، وقد يشمل ذلك حركة المرور كما في ميدان التحرير، أو وقف العمل كما في مصنع أو مصانع. كما أنه يظل عملية استيلاء، سواء أدار المعتصمون المصنع أو سيروا المرور أم لا، ومهما حاولوا إنكار معنى الاستيلاء الذي ينطوي عليه مرادف كلمة اعتصام الذي يتجنبونه: احتلال.
  • بلجوئها إلى مقار قوات “الشعب” المسلحة تسعى حركة إعلان الحرية والتغيير السودانية إلى التأثير على توتر في الجيش تكسب من خلاله (البعض في) سلك الضباط، ضباط الصف، الرتب المتوسطة، ممن لم يُعرف عنهم انتماء للنظام أو تورط في فساده وانتهاكاته. كما تؤكد على سلميتها كسلاح أساسي: الاستجارة من العنف بمحتكر العنف، بل مطالبته بأن يحتكره أكثر.
  • أكثر من المصنع – والجامعة لاحقا، بعد انتشار التعليم العالي في الطبقات المتوسطة فما تحتها، وهو ما تجلى في حقبة ١٩٦٨، المستمرة إلى الآن وفقا للبعض – يُعد الاعتصام بيئة تركيز نضالي، حيث يلتقي أفراد من الطبقات المَسودة، المحكومة، لأوقات طويلة، في نشاط مشترك ومتكرر، فينمون الصلات والروابط، ويعون بظروفهم المشتركة، ومواطن قوتهم وقدراتهم المطلبية والصراعية، ويتبادلون الخبرة، ويتنظمون. (الاستعارة الكلاسيكية هنا هي أغورا، وهي رفاهية كسبها مواطنو أثينا “الأحرار” بفضل العبيد. لابد من بقاء الاعتصام كمسألة حياة أو موت لأنه ليس أغورا، وما من أغورا، نعود إليها.)
  • من هنا تأتي الطبيعة المتناقضة للاعتصام، إذ من ناحية يشتد عوده وتتفجر إمكاناته ما دام وجوده، ومن ناحية فإن حالة الانتظار التي تَسِمُه مع التأكيد على أهمية النفس الطويل، في حرب الأعصاب هذه، تخاطر بإحداث تململ سريع، على الأخص وأن الاعتصام لا يوقف حقا الحياة العادية خارجه، وإليه يعاود أغلب المعتصمين أنفسهم الرجوع من العمل والبيت إذ لا يريد أحد خسارة وظيفته، ولا وضع رهان شخصي كامل ومطلق على نجاح الثورة.
  • بعد يوم الجمل ٢ فبراير ٢٠١١ لم يَعُد اعتصام التحرير أبدا كما كان. انتهت طوباويته الشهيرة قصيرة العمر ولم يعد أحد فوق الشبهات بعد انتشار شائعات تسلل أفراد لإثارة البلبلة وتفرقة الصفوف، وصودر كل حوار إشكالي أو تساؤل حساس أو إبداء أي تشكك علني أو قلق. كان المطلوب فقط هو رفع الروح المعنوية والصمود إلى ما شاء الله. تكرر الأمر في اعتصامات لاحقة، ففي اعتصام مجلس الوزراء نحو نهاية العام وفي اعتصام يوليو من قبله كان من غير المقبول للبعض طرح مسألة فض الاعتصام للنقاش في اجتماع عام، ما كان يعني الإسراع بتخريبه وتقويضه.
  • في مقابل الإسكات من الداخل كان أي منشور يوزَّع في الميدان يقابَل بلهفة واحترام؛ فحالة الانتظار تشمل أي كلمة أو مبادرة قيادة “من الخارج”، كلمة ينبع احترامها أيضا من هالة الكلمة المكتوبة والمطبوعة مع عدم تشخصُن/تجسًّد المخاطِب في مجرد زميل اعتصام مثلا. وتُختصر الديموقراطية والحاجة إلى الحوار في منصة وجمهور. هذا مظهر واحد لملمح بارز آخر في تناقضات الاعتصام كوسيلة لإملاء الإرادة الجماعية وكحشد ينتظر الأوامر والقرارات. (كان “الخارج” الوحيد المشروع كمصدر للقرار في الاعتصامات التالية ليناير-فبراير هو السماء حرفيا: الشهداء، وأهاليهم بالتبعية كمتحدث عنهم.)
  • مِثل اعتصام التحرير يصبح اعتصام الخرطوم موضوعا لصورة ذاتية يعاد إنتاجها على مدار اليوم في مشاهد وأيقونات وقصص بصرية ورمزية، أكثر منها – في الأغلب، وفي حدود ما يمكن الحكم به من بعيد – تجمعات ومواقف مؤقتة ثورية ترهص بالديموقراطية الجذرية والإبداع الجماعي والتعايش الحقيقي، فعلى هذا المستوى هو لا يمثل سوى لمحة خاطفة عن حياة بديلة ممكنة.
  • التناقض الثالث في أي اعتصام اليوم هو حاجته الماسة هذه لـ”تلفزة الثورة” وما تفعله به هذه “التلفزة” الضرورية. لم يعد السؤال هو هل ستتلفز الثورة، وإنما هل يجب أن تتلفز، أو بمزيد من الاعتدال، كيف تتلفز. وكم كان عبقريا من بيتر واتكنز أن يختار لتجربته السينمائية الفذة في مطلع القرن، عن الإعلام والتاريخ ومسرحة وإعادة تجسيد الصراع، أنجح وأشهر وأهم اعتصام/احتلال في التاريخ، والذي يلخص بدرامية عالية كذلك كيف ولماذا قد يفشل اعتصام/احتلال بسبب التناقض الرابع بين حدود السلمية وحدود العنف: كوميونة باريس.

القطار يدخل المحطة

في قرية بعيدة، بعيدة جدا… سألت الأم طفلها وهي تطعمه، وسألت الخالة طفل أختها وهي تطعمه: أين يدخل القطار؟

يدخل السرير؟

إنه سؤال بلاغي. يبتهج إزاءه الطفل فاغرا فاه الغض للملعقة القطار. يتغذى. يكبر. ولعله يفكر في القطار، وفي ماهية هذا القطار. يربطه بالصوت الآتي كل بضع ساعات من حدود القرية؛ عند محاكاته بالفم الملتصق بغتة بأذن الأم أو الخالة، بالمرح الشرير لطفل، صوت مختزل بشدة وطفولي ليس جهوريا ولا مفزعا حقا كما يراد به، لقطار ليس أكثر من دمية مسلية.

يكبر وبعد قليل يقترن القطار بأشياء أخرى غير مرحة. كما في أغنية عربية لخضر العطار تعلن بعد موال قصير “كرهت صوتك يا قطار / كرهت ساعات الرحيل”. إنه لا يفهم النوبية ولا يصله كل غناء الحلفاويات الثلاث المعروفات بالبلابل، لكي يتأكد القطار كعلامة حميمة على الغربة والتهجير على الجانب الآخر أيضا من الحدود. ولا يصله أبدا صوت قطار حمزة الذي يفككه إلى إيقاعات تتحدث ما يشبه النوبية، فيما صار وفق اسمه العالمي “بطاقة معايدة“.

وبأشياء أقل مرحا: فشريط السكة الحديد طويل بطول البلاد، يصل إلى مصر وإلى البحر ويمر بكل الصعيد، غير مستور بسور ولا مزلقان، وقضبانه قد تنغلق على من يمر مشيا كما رأى في “فيلم عربي” قديم، أما القطار نفسه فيدهس، يطحن، يحطم، هذا المار الشارد كما سمع ممن رأوا الجثث والأشلاء، يكون بعيدا وفجأة يمر فيك، في لحمك المتطاير. لعل بعض العظام وسط القمامة الغابرة وعظام الحيوانات في ثنايا السكة في مراحلها الأقل عمرانا هي بعض عظام هؤلاء المارة العالقين هناك للأبد.

يكبر، وتصغر البلاد، والذات. ينفطم الطفل مرات ومرات ويدرك في إحداها أن كل أطفال البلاد قيل لهم: أين يدخل القطار؟

تصبح البلاد شريطا طويلا من وراء الزجاج، من حقول وبيوت طين وعمائر أسمنت والجبال من ورائها ونيل يطل، وصحراء تطل، وشمس تروح وتجيء، وترع، وأمراض، وفقر كثير، وحزن غريب ورومانسية وحب لعين لما سرعان ما سيصبح اسمه الوطن والحبيبة والأم، ومن ورائه الصورة اللعينة. وعلى مدار هذه السكة روحة وجيئة، على مدار السنين، لن أترجل أبدا في نقطة بين مدن وقرى أقصى الجنوب مسقط رأسي وبين عاصمة البلاد الأولى والثانية، إلا عندما يقذف بي نظام التعليم إلى الجنوب الأقل قصاءً.

***

سقطت قطرة من الدم على يدي التي كنت متكئا بها على نافذة القطار.. ولم ألق بالا للأمر أول مرة، فمسحتها وواصلت استغراقي واستمتاعي بخواطري […] ولكن سقوط قطرة ثانية حفزني لأن أحاول استطلاع مصدرها، فأخرجت رأسي من النافذة ونظرت إلى أعلى فوجدت خيطا من الدماء ينساب من فوق سقف عربة القطار التي يطل من فوقها أطراف حذاء عسكري، وأدركت الأمر بسرعة، فهناك جندي مصاب فوق القطار. […] صحت بمن حولي أن يطلبوا من المسؤولين عن القطار إيقافه بأسرع ما يمكن […] أجمع الناس على أن الجندي […] ارتطم رأسه بسقف إحدى القناطر التي يمر تحتها القطار […] قلت […] إنني طبيب […] كان رأس الجندي مهشما […] وكان قد فارق الحياة تماما […] سلمناه إلى الشرطة العسكرية التي بدأت في جرد محتويات ملابسه […] منديل […] ثلاث سجائر، سبعة عشر قرشا، ختم، برقية. […] “احضر حالا … والدك توفي.” […] لم أعد أرى برغم عيني المفتوحتين لا الأشجار ولا البيوت التي كانت تطل عليها نافذة القطار […] أترى هذا الوطن القاسي على أبنائه المخلصين.. أيمكن لهذا الوطن أن ينهض؟ إن الأمر كله مرهون بقليل من الرحمة يمكن أن تنقذ عالما بأكمله.

—أحمد حجي، «مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس»، ١٩٨٨

***

في الشريط أيضا جسور تُمد، وأطباق تنتشر، … وأقول لأمي في محطة المدينة الريفية البعيدة، البعيدة جدا، قولا يستفزها عن “أولئك الغلابة” الذين يستقلون قطارا بائسا، فتلقي علي حقيقة تاريخية وطبقية: حتى وقت قريب كان هذا هو القطار الذي يركبه أهلي، قبل أن تتوظف البنات ويتزوجن وتنقلهن الوظائف والزيجات إلى قطارات أخرى، درجة ثانية، مكيفة. ليست هي التي ينام فيها الركاب فوق الأرفف، وإن كان متسللون يسافرون فوق أسطحها (كالهارب في فيلم آخر). ليست هي التي تسقط أرضية حماماتها فجأة بمن فيها (كما حدث). ليست هي التي تحترق في منتصف الطريق بمئات الركاب “الغلابة” كما حدث. الحقائق المقلقة لا تخلو من دواعٍ لراحة الجبان، والعكس أيضا صحيح.

أتحرك، كما تحرك أهلي، ببطء لكنه أقل من بطئهم. وفي المدن الكبرى أعرف محطات أخرى، وأعرف فيها الكتب، وأصحب فيها الصاحبات. أعود إلى هاء في الطريق إلى إسكندرية وتقول لي بحياء شيئا عن عروق يديّ لأول مرة. وبعد سنوات غير قليلة يطالعني بغرابة شديدة في أيام الثورة منظر المحطة الموحي بالبذخ أثناء “تجديدها” (من الوهلة الأولى ثبت عندي انطباع بأن النجفة العجيبة – وأنا أخاف النجف منذ شاهدت فيلما قديما آخر – هي مقصلة)، ثم أعود إليها من إسكندرية مع تاء التي لحقت بي لتصالحني، قبل أن نفترق وتعود إلى حيها الراقي. كان هذا قطارها الأول هي ربيبة السيارات. لكن ميم وأنا افترقنا قبل أن نركبه. وركبته مع باء إلى إسكندرية أيضا، هي التي يصل القطار في دولة بلادها في موعده بالثانية، الأمر الذي عجزت عن فهمه. وفي الثانية بعد الأخيرة الأخيرة شاهدت وجه سين وقد اتخذ سحنة غريبة وهي تجري بأقصى سرعتها لتلحق به وبي وأنا على بابه يائسا من قدومها. وفي مرة تالية نادرة سنذهب معا جنوبا، لتصحبني في استخراج أوراق الإعفاء النهائي. قطارها الأول إلى الجنوب، هي الصحفية، هي المحظور تجوالها طويلا من الوالد والوالدة. استجوبنا فرد المباحث إذ ما الذي يجعلنا نسافر سوية بدون زواج أو صلة قربى.

***

قبل أن يترك الطفل قريته، وفيما هو يراهق ويتململ ولا يذهب إلى أبعد من الحائط الأصفر ويحوم وحيدا أو مع خليليه الجاهلييْن أو مع قرين أو أقران حول مهارب الخيالات، في القفار الجبلية، على الطريق السريع، في المحطات شبه المهجورة، كان قد عرف بلا شك عن فيلم لوميير الأشهر، وقصة فزع المشاهدين المضحكة وجريهم من أمام القطار المقبل “بسرعة” على الشاشة.

فمن مجلة تأتي بانتظام من الخليج حاملة بقايا التنوير والتطلعات العربية على ورق مصقول مدعوم، عرف أشياء كثيرة عن بلاد لم يزرها، وأفلام لم يرها، وعن كتب لم يقرأها ولو كانت القراءة هي السبيل الوحيد المتاح. رأى بوضياف لثوان وهو يُغتال على التليفزيون متحدثا عن أهمية التعليم في تقدم الأمم المستقلة ومفتتحا فصلا طويلا في الحرب الأهلية. وسمع بوتفليقة في الإذاعة وهو يتحدث عن الإرادة الإلهية لتسييد اللغة العربية. وسمع عن حَسني لكن العولمة لم تُسمعه إياه وأسمعته خالد ورشيد وفضيل وأرته إياهم، وسرعان ما ستسمره ومن حوله ليشاهدوا على الهواء مشاهد الطائرتين المدنيتين والبرجين.

وفي المجلة قرأ نقدا عن السينما الجزائرية جعله يغضب من فيلم «عمر قتلتو» ويشتاق لرؤية «وقائع سنوات الجمر». (بعد حل مشكلة الوصول بنسبة لا بأس بها، سيشاهد الفيلمين أخيرا بينما يحتج جزائريون على التجديد لبوتفليقة، فيحب الأول كثيرا وليس الثاني.)

وفي وعيه، اقترن الوصف المقروء لعرض أفلام لوميير بما يسمعه عن قوافل الفانوس السحري التي عرضت لأهله وجيرانه القرويين هؤلاء، أيام الإصلاح الزراعي، أفلاما منها واحد عن حرق القصب، هب الناس أمامه فزعين من النيران التي اشتعلت فجأة في جدار الجامع، بينما الشباب المتعلمون الذين ذهبوا إلى سينمات العاصمة يضحكون منهم مع الموظفين الغرباء.

لن أنتبه لاسم المدينة الأولى قبل زمن: لا سيوتا. ولن تثبت “الأفلام الأجنبية” اسم الثانية في ذهني، ولن تفعل ذلك فورا المشاهد المذاعة على الهواء: مانهاتن. لكن سيبدأ تاريخ المدينتين والموقعين عندي من هاتين اللحظتين. أما محطة رمسيس/محطة مصر، حيث فصول كاملة ولحظات ومعانٍ لا تنسى من حياتي، من حياتنا، فسيبدأ تاريخها الجديد الآن.

***

السيدة المتأرجحة في مشيتها من أثر الروماتزم بشنطتيها البلاستيكيتين مثل سيدات مصريات لا يحصين رأيناهن وعرفناهن، قبل ثانية واحدة من ركوب طائرة ١١ سبتمبر الخاصة بها. الفتاة التي تنتبه بالكاد إلى ذلك الشيء الرهيب القادم فتتراجع عن حافة الرصيف ببساطة موجعة غير متناسبة إطلاقا في كل مرة نعيد فيها تشغيل اللقطات. الرجل المشتعل هبوطا وصعودا في السلم في فيلم الرعب المصري الملون “الصامت” القصير فيبعد عنه الناس مومئين في ابتعادهم كل مرة إلى مصدر الخسة الحقيقية الكبرى التي أضرمت فيه الحريق، ومصدر النبل الذي تبقى بعد كل هذه العقود مع دلو المياه.

***

هل شم الحاضرون “رائحة الشواء الزكية بشكل مربك” كما وصف صحفي إنجليزي دخوله مدينة لبنانية بُعيد غارة إسرائيلية في الثمانينات—أم كانت في التسعينات؟ لم يقل ذلك في تقاريره الصحفية اليومية، وإنما في كتاب عن الحرب، صدر بعد سنوات. لا يمكن لصحفي أن يقول ذلك في تقريره اليومي. لن يخرج المذيع الإخباري ليقول “وفي قانا شم مراسلنا رائحة شواء زكية بشكل مربك سادت أنحاء المدينة”. سيقول “ويقدر عدد الخسائر بمائتين وستة وعشرين بين قتيل وجريح جراء القصف.” أو شيئا من هذا القبيل.

***

TerrsoTrainGIF

يعرف دارسو فيلم آخر للوميير “شخصيات” الفيلم بالغ القصر، معرفة تجعلها الدراسة حميمة أكثر منها أكاديمية، تجعلهم “أبطالا”. تميز بين من يظهر ويختفي في ثلاث نسخ مختلفة من اللقطات الأيقونية وماذا يفعل في هذه الثواني بسرعة ١٦ إطارا في الثانية: العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة الحصانين؛ العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة الحصان؛ العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة اللا أحصنة.

ويقول واحد من هؤلاء الدارسين، قضى عاما في جمع وتركيب تناسخات هذا المشهد في أفلام تالية عبر القرن التالي:

في ١٨٩٥، كانت كاميرا الأخوين لوميير مصوبة نحو بوابات المصنع؛ إنها طليعة كاميرات المراقبة الكثيرة اليوم والتي تنتج تلقائيا وبشكل أعمى عددا مطلقا من الصور من أجل حراسة حيازة الأملاك. لعل بمقدور المرء بمثل هذه الكاميرات أن يحدد هوية الرجال الأربعة في فيلم روبرت سيودماك Robert Siodmak «القتلة» The Killers (١٩٤٦) والذين يدخلون، في لباس العمال، مصنع برانيط ويسرقون الأموال المخصصة للأجور. في هذا الفيلم يمكن للمرء أن يرى العمال يغادرون المصنع وهم في الحقيقة رجال عصابات. واليوم فإن الكاميرات المخصصة لمراقبة الجدران أو الأسوار أو المخازن أو الأسطح أو الباحات تباع فعليا مزودة بكاشفات رصد حركة وتسجيل أوتوماتيكي بالڤيديو. وهي تتجاهل التغيرات الطارئة في الضوء والتباين، ومبرمجة على تمييز أي حركة هينة من مصدر تهديد فعلي. (يُشغَّل جهاز إنذار عندما يتسلق شخص سورا، ولكن ليس عندما يطير طائر عابرا.)

هناك إذن نظام أرشيفي جديد في الطريق، مكتبة مستقبلية للصور المتحركة، يمكن للمرء أن يبحث فيه ويستعيد عناصر من الصور. وحتى الآن فإن التعريفات الحركية والتكوينية لتتابع من الصور – تلك الأشياء التي تمثل العامل الحاسم في عملية المونتاج الخاصة بتحويل تتابع من الصور إلى فيلم – لم تصنف ولم تُدخَل بعد.

كانت الكاميرا الأولى في تاريخ السينما مصوبة نحو مصنع، ولكن بعد قرن من ذلك يمكن القول إن الفيلم ينجذب بالكاد إلى المصنع بل ينفر منه.

—هارون فاروقي، ١٩٩٥

***

بتقدم الزمن والبشر والصور: تصبح الحياة في مصر هي بالأساس موضوعا (آنيا) للأرشيف، أكثر منها حياة تنسحب تدريجيا منها ومن الصورة أي معالم تذكر للحداثة وتكتفي الحداثة بالتصوير ذاته، وبينما تأكل السلطة نفسها وتأكلنا تحتفظ لنا بذكرانا الحميمة في بطنها، حيث سنرقد ونأتنس بها ممتنين، قد تشهد على نفسها، لكن تقدم الزمن والبشر والصور يتكفل بأن: تصبح الشهادة الفاضحة مادة للترفيه الدموي كما أصبحت الحروب على الهواء مادة إباحية تفرعت إلى پورنوغرافيا تعذيب؛ يئوّل المذيع الكبير الشبه الغريب بمشاهد البرجين على أن الإرهاب متهم معقول، بين فقرات برنامجه الرائج المساهم بقوة في افتراس ذبائح جديدات ظهرن قسرا في سينما الدولة، التي بعد أن استعاضت عن اللومييرات بمخرجي “الانحرافات”، استعاضت عن أولئك بمخرجي المظاهرات، ثم استعاضت عن هؤلاء بجيوش من الكاميرات المصوبة، يستقر أغلبها الآن في أيدينا.

***

من سيحب أحدا الآن ويصحبه إلى هناك؟ من سينجب طفلا الآن؟ من سيطعم طفلا ويسأله أين يدخل القطار؟ من مِن المشاهدين سيغادر مكانه؟ من سيوقف القطار؟

أخلاق القرية الذكية

(١) في مصر يشن نقيب الموسيقيين حربا على شاب صاعد النجومية بفضل نوع شعبي إلكتروني سهل الإنتاج، حرب قطع عيش لا مجرد حرب عدم اعتراف باردة، يدعمها المجهود الحربي للجان الرقابة والمهن الفنية لضبط وتمرير ما هو فن وما هو شرعي وما هو صالح وما هو نافع، لتُظهر النظام بصورة عجيبة، ليست معادية للفن والثقافة والحرية بأكثر من معاداتها للسوق والرأسمالية، في بلد يعاني منها حَمُّو وبقية الشباب من التعطل والتخلف الاقتصادي ويُمنعون الآن من اجتراح فرص لأنفسهم وخلق وظائف لغيرهم، وليس بالضرورة ولا بوضوح لأن العمل معارض أو هدام أو منحط، إذ يكفي أن يكون صاحبه غير ملم بالقراءة والكتابة اللازمتين ربما لعضوية اتحاد الكتاب. على غرار روسيا الستالينية وألمانيا الهتلرية ومصر الناصرية يرى هؤلاء نظام بلادهم، رأسمالية (دولة) من نوع أو آخر مخطط مركزيا إلى هذا الحد أو ذاك تحت نظام شمولي يغذي صورة قومية متعاظمة تسير الأمة في ركابها إلى المجد والخلاص أو مجرد البقاء. الفارق الهزلي هنا هو أن السلطات الثقافية لا تعبأ حقا بتحقق أي من هذه الشروط القمعية لتشديد قبضتها: شمولية غير مستوفاة المتطلبات وغير قادرة على المنع الفعلي في عصر الاستنساخ الرقمي ضمن دولة تابعة تماما للأجندة الليبرالية الجديدة.

(٢) في مصر وسوريا بعد ٦٧ تركت الدولة مجالا للفنانين الغاضبين وأعطتهم المؤسسات والأدوات ليصنعوا أفلاما مثلا كما فعل عمر أميرالاي وعطيات الأبنودي وحسام علي (المعرض الزراعي)، على ألا تعرض لجماهير حقا قط. يستغرق الأمر عقودا حتى يدخل الإنترنت وأخرى حتى يتسنى نشرها ثم تداولها (وليس “توزيعها”) عليه، وأبدا فوق ذلك ليكتشفها من لا يعرف بوجود هذا الشيء وهذا العالم، على الأخص بعد تقديم مناسب يحكمه في النهاية مزاج الخوارزميات. تظل في مقبرتها المعروفة بالمركز القومي لتحقق تنويعة غريبة مما أسماه بنيامين “القيمة المعبدية” للعمل الفني في عصور ما قبل الحداثة، مرئية فقط للنخبة المثقفة والغاوين، ولا بأس من أن تعرض من زمن لآخر في نادٍ بل على جمهور رمزي ما ضمن مهرجان مثلا، بلا “قيمة معرضية” حقيقية في زمن الاستنساخ الفائق للآلي.

(٣) في فرنسا ما بعد الكومونة نُبذ مصورون فرنسيون شبان من المؤسسة لأن ما أنتجوه كان بوصف ناقد معاصر “جريمة” في حق الفن (“الشكل”) والأساتذة، لكن أحدا لم يمنعهم من لم الفلوس وتأجير ستوديو وتنظيم ٨ معارض لعقد ونيّف قبل أن ينفرط عقدهم لأسباب تتعلق بالتطور لا التضييق، ولا من الحصول على مقابل (عيني، من دهانات ألوان وقماش لوحات) من شخص وحيد (أب كما كنوه) قبل لوحاتهم ليحاول بيعها. هذه فرنسا المنتصرة إن لم يكن على پروسيا فعلى سلسلة أجيال من الثورات الكبرى استولى آخرها على العاصمة لشهرين، وسيصبح هؤلاء الفنانون المعدمون أساتذة المستقبل غير البعيد (و”الفنانين الرسميين” فيه—غوغان، متنبئا ومتخوفا: مانيه، مونيه، رينوار، …).

(٤) في مصر الآن ليست مصر هي مصر ما بعد ٦٧ المعترفة بهزيمة الحكم العسكري كشرط للتنمية، ولا ما بعد ٣٠ يونيو المطالَبة كدولة من ثورييها الجدد بأن تحارب مرة أخرى (في الداخل هذه المرة، مع استبعاد صوت واحد فقط من المعركة). في مصر تنمو أوهام العظمة الحاكمة الخائفة بجنون ونزعتها للقضاء على كل تهديد محتمل والانتقام من كل تهديد سابق لم ينضم إلى قائمة الأصدقاء، تنمو في فراغ آخذ في أن يصبح كاملا يُسحب منه تباعا كل الهواء والمعنى ولا تحسب القوة التدميرية الصرفة حسابا لغد تجد فيه ما تأكله هي والمؤمنون بها وتنمو كشر ضروري يمت بصلة إلى الحياة الذكية. “وجعانين ميتين”.

“ما تخافش م الكلب، خاف من صاحبه.”

81owaz9kyvl._sl1500_

في الطريق إلى البنك حارس ڤيللا في الحي الراقي العريق يطرطر في وضح النهار تحت شجرة بحذاء السور فيما بينه وبين السيارة الرباعية الفارهة وهو في زي شركته الموردة للخدمات على الرصيف الخالي من المارة.

في البنك عاملة تصور البطاقات ربما أصغر مني أو في سني أو أكبر، “ربما” لأن جمالها الغابر الرشيق من جراء العمل والحرمان جففه الفقر، في تضاد غير مريح مع أناقة “الياقات البيضاء” الشتوية بشبشبها البلدي وقدميها الوسختين وزيها العلوي البرتقالي الذي يعلن اسم الشركة الموردة للخدمات Arab Group for [جزء من الاسم يغطيه حجابها] Services وتحته هذه العبارة الظريفة: Maybe I l<3ve my job ،التي ربما ترجمها لها أحد الياقات.

فيم وجود ومهانة وجود هذا “الحارس” وهذه “العاملة” مع كل هذه الكلاب والكاميرات المصوبة من الأسوار وماكينات تصوير المستندات؟

أقرأ ما تيسر من كتابات ماركس الاقتصادية “الإنسانية” الأولى. يقول البعض إنه فهم القرن التاسع عشر فهما عميقا لكن الماركسيين عجزوا عن تقديم تفسير أو حل يناسب القرن العشرين. بينما يعتقد البعض أن المشكلة أغرب ربما من ذلك: “فهم” ماركس القرن العشرين والحادي والعشرين بأفضل مما “فهم” التاسع عشر.

الثورة (الفرنسية) مستمرة، ربما؟

في الحديقة التي أعدها بعض السكان لتصبح مساحة مجتمعية، فوضعوا أريكتين ودعوا فنانا لنصب عمل فني عام يمثل بالحديد المطلي بالأسود عاملا على دراجة يحمل على رأسه “قفص عيش”، يطلب مني فرد مباحث بدماثة، بعد أن استجوبني وكشف على بطاقتي، أن أغادر لأن الجلوس هنا ممنوع، في هذا المكان المحاط بالسفارات. عدا هذه الحراسات لم أر الشرطة هنا إلا في حملة ضخمة مدججة بأسلحة جديدة لإزالة مشاريع تجارية متناهية الصغر لا تكاد ترى بالعين المجردة في الطريق الواسع الخالي.

في حديقة أخرى مهداة من عائلة أعمال، على أنقاض الحديقة الأصلية التي كانت تستر المراهقين والباحثين عن خلوة حسية وربما متعاطي المخدرات، شباب وربما شابات صغار من أحياء فقيرة جاؤوا للفرجة والاختلاس ومضايقة الآخرين، لا من “المغتربين” ولا ممن يبدو عليهم أنهم من أهل الحي، وإنما على الأخص من الشبان والشابات الصغار الفقراء من أفريقيا السوداء، اللاجئين ربما.

إنه بالرغم من ذلك حي رائع بالتأكيد، ليس فقط للدراجين وأصحاب الكلاب. حي يهرب إليه “القادرون” من الراغبين في اختلاس يطول أو يقصر، في شيء من الحراك وفي شيء من الحرية، وأشياء أخرى جيدة ومتناهية الصغر.

منير ١٩٨٩


هذا الڤيديو من حفلته في كلية الفنون التطبيقية في ١٩٨٩ يكاد يكون المدخل المثالي لفيلم وثائقي عن حياة وزمان ومسيرة محمد منير: لقطات ذات طابع أرشيفي شخصي من شريط ڤيديو منزلي رديء مرفوع على يوتيوب منذ ١٠ سنوات، في ذات المكان الذي تخرج منه قبلها بدستة من السنوات، تحديدا في قسم الڤيديو، وبعد وقت قصير من إصدار ألبومه السابع، الانتقالي، شيكولاتة، يتحدث في الثواني الأولى منه عن الكلية والحرية ومصر والحرب، معلقا على رفض بعض الطلاب (الإسلاميين كما نفهم ضمنا) إقامة الحفلة:

أفكر زملاءنا اللي رفضوا تواجدنا ف الكلية…من حقهم…ومن حقهم يرفضوا دا ويعبروا دا ف صورة…بأي صورة ترضيهم…بس بافكرهم بجيلي أنا واللي موجود منه كتير يعني على ما أتذكر الدكتور محمد الصاوي، الدكتور حسين فهمي، والدكتور عادل الحفناوي، كلهم يتذكروا إن احنا سنة 70 و71 و72 عملنا مظاهرات زيهم. بس الفرق بيننا وبينهم إن المظاهرات دي كانت بتطالب مصر إنها تحارب.

لكن دلالات الڤيديو في سياق محمد منير تعود بالأساس إلى دلالات أكبر للحظة: فمحمد منير في بدء مغيبه هو شخصيا، تماما في اللحظة التي يخطو فيها بعيدا عن مشروعه الطويل الذي خرج معه  إلى النور مع فرقتي هاني شنودة ويحيى خليل، وفي معية مكتشفه وراعيه وملحنه الأول أحمد منيب الذي يعيش أيامه الأخيرة، وبرفقة شعراء عامية مكرسين وشباب وجدوا فيه أخيرا صوتا لهم، متحررا منهم وضائعا في آن معا، وهؤلاء جميعا وبلادهم ومن شابههم في العالم في ذروة لحظة الانكسار والانهزام الكبرى في تاريخ اليسار العربي والعالمي وكذلك العالم الثالث وقوى التحرر:

في البدء كانت الهزيمة. … من نصف السبعينيات الثاني، كانت الحركات الاحتجاجية المولودة في أواخر الخمسينيات… في حالة اضمحلال. وأسباب ذلك شتى… وقد وجدت عملية الاضمحلال هذه التعبير الأوضح عنها…في سقوط جدار برلين. من الواضح أن شيءا كان قد انتهى في حوالي عام ١٩٨٩. المشكلة هي أن نعرف ماهية هذا الشيء ونحدد متى بدأ الشيء الذي انتهى.

(Razmig Keucheyan, Hémisphère gauche. Une cartographie des nouvelles pensées critiques, La Découverte, 2010.)

وفقا لهذه النظرة فإن محمد منير يعتلي المسرح ويلقي كلمته الغاضبة الحزينة الوجيزة البليغة في نهاية دورة كبرى إلى هذا الحد أو ذاك من التاريخ الحديث، بدأت إما: ١- قبل ذلك بثلاثة عقود مع صعود اليسار الجديد على خلفية بدأت تحديدا في موقعين جغرافيين أحدهما مصر (السويس، ١٩٥٦)؛ أو ٢- قبل ٧ عقود مع الثورة البلشڤية، والتي هزت العالم “مبكرا جدا” بما فيه مصر وبقية المستعمرات المتنازع عليها مجددا بنهاية الحرب العظمى، وهذه العقود السبعة تساوي القرن العشرين “القصير” كله بحسابات هوبزباوم؛ أو ٣- قبل قرنين بالتمام والكمال، وبحسابات هوبزباوم كذلك، أي منذ اندلاع الثورة الفرنسية، ١٧٨٩، افتتاح القرن التاسع عشر “الطويل”، والتي سرعان ما ستأتي بناپليون وحملته على مصر والولع به بما في ذلك افتتان مؤسس مصر الحديثة، والمصريين أنفسهم، به.

أقصر الدورات المحتملة إذن تعود إلى ما بعد مولد محمد منير بعامين، وتصل إلى ذروتها في ١٩٦٨، بعد عام من الهزيمة المنكرة لمشروع تحرر الضباط الأحرار، والتي سيطالب الطالب محمد منير وزملاؤه بإنهائها… عسكريا.

(يُتبع)

كباريه التاريخ/تاريخ الكباريه: الهِشِّك بِشِّك والحنين إلى الماضي المهزوم

تساءلت مرة على الوسائط الاجتماعية (ولم يشف أحد غليلي) عن حقيقة التياتروهات التي تربينا عليها–بالأبيض والأسود. أحقا كان الناس يذهبون إلى كباريه من نوع خاص يعرض تابلوهات راقصة لنساء كنعيمة عاكف وسامية جمال وتحية كاريوكا أو جيش من الراقصات المصريات والأجنبيات يتوسطهن مغن ككارم محمود أو فريد الأطرش أو محمد فوزي؟ هذه الأوبريتات التي تفرجنا عليها على الشاشة منذ وقت مبكر في السينما المصرية واستمرت نماذج مصغرة ومحورة منها عبر الستينات والسبعينات–أهي مجرد ماضٍ متخيل؟ يهمنا هذا. لأن أسلافنا في المدينة يبدون أكثر استمتاعا بالترفيه الاجتماعي.

في الهشك بشك شو على مسرح سيد درويش (ويا له من مكان) لم نكن لنميز أحدا يتوسط الآخرين على مدار العرض. يحدث هذا بالتبادل وكثيرا ما ترمي عينك هنا أو هناك لترى أشياء تحدث بالتزامن. حتى الراقصة الجهنمية ليست مركز الخشبة. هناك شاشتان مثل نسخة حديثة من صندوق الدنيا تعملان أحيانا كستار لسلويت وتؤكدان في الأغلب (ألجزء الأول العشريناتي بالذات) على الحنين، بالصور والموتيفات، ثم يجن جنونهما لتصبحا قماشتي لوحات (يذكر تربيعهما بجماليات إنستاغرام) لتحريك كيتشي كوميدي.

هذا الحنين لم يكن أبدا خالصا. هو من البداية يتصاعد عبر أكثر من خط ليصيغ بيانات تعبيرية من قطع كألعاب الأطفال، مثلما يدعم قوس الأحجار الجسر لا الأحجار نفسها كما يوضح ماركو بولو لكوبلاي خان وهو يحكي له عن مدن إمبراطوريته التي لم يعرفها: ممارسة النوستالجيا والسخرية منها؛ استحضار الزمن الذهبي ومآلاته المأساوية الكامنة وصولا إلى التابلوه الأحمر الختامي “العتبة جزاز” على إيقاع حزين شارد مهلوس طويل (الأغنية ‘الهابطة’ التي أوّلها البعض كمرثية لسيناء، الصيد السهل وبداية الطريق السائغ أمام العدو)؛ إعادة تجسيد (بشكل غير دقيق تاريخيا ربما، بأريحية لُعَبية وليس بلا مبالاة) لزمن انفتاح ولهو يقوم بها أشقاء أغراب أمام أهله الأصليين ليذكروهم ربما بوقت كانوا فيه أكثر خفة ومرحا برغم كل شيء، أبهج ألوانا، أشد تسامحا–لكنه لهو مقرون بالضياع، بانحلال داخلي في عزلة الفقاعة. لكن هذه الفقاعة ليست في ذاتها شرا بل يحتفي العرض في الأساس بها ويدعونا إليها.

إننا نرى قصة بلا قصة، تسردها مجرد مجاورة هذه الأغاني وأداؤها بهذا الشكل؛ قصة عن الأحلام وسقوطها. ولكننا أيضا ونحن نمارس الحنين نتعرض لترفيه طازج عالي الجودة معاد تصنيعه، يحتفي بالجنسي والمنحرف والهابط والطربي والهزلي، بكل ما حاول الخطاب المحافظ والتقدمي في آن معا كنسه على الأقل خارج قاعة الأوبرا، التي تحولت، ولو لمرة، إلى كباريه زمن جميل ممتد، نعرف فيه أننا لسنا هنا لنشرب وننسى وإنما لنتذكر وننبسط كثيرا ونرتبك أيضا. إن هؤلاء المهرجين هم في الواقع مهربون، كما يسمي سكورسيزي طائفة من المخرجين الأمريكيين العظام (ضمن أربع تقسيمات، أحدها السحرة). لعلنا نقوم مثل لعازر كما قام الجندي المقعد إذ نتداوى بالتي هي الداء كما قال سيد المجون. ودع عنك لومي.

[كتب هذا النص في الأصل كرسالة إلى صديقين حضرا العرض نفسه كجزء من تفكيرنا حوله.]

إني رأيت أفضل عقول جيل الستينات وقد دمرها الجنون

(1)

يتجرع شباب الثورة مرارة الخيانة وصدمتها؛ لقد خذلهم أساتذتهم من المناضلين القدامى والمثقفين الكبار، فبعد أن ساهموا في كبح الثورة، وقفوا دون مواربة مع الفاشية الصاعدة. لكن التفسيرات لا تخرج عن بطاقة تعريف ‘تقدميًُّو الدولة’ بتنويعاتها وفكرة صراع الأجيال. وما يغيب عنهم هو الأفدح: أنهم أنفسهم مرشحون لتكرار السقوط المدوّي نفسه، برغم كل الفوارق والمميزات التي لصالحهم، وبرغم تجربتهم الفريدة. وذلك ببساطة لأنهم لم يسألوا بجدية: ماذا حدث للأساتذة وكيف أصابهم ما أصابهم؟

(2)

منذ بضع سنوات، جلس مثقفان كبيران حقا في كافيتيريا المجلس الأعلى للثقافة، بعد ندوة عن ما بعد الاستعمار. كانا تقدميّيْن وإن كان أحدهما على يسار الآخر بمسافة، لكنهما اتفقا أن لا حل للمشكلة–وأن هذا لا يعني إنكارهما، أو حرمانهما من، “لذة النقاش”. لقد تحول السيدان بعد ثلاثة عقود في حظيرة الدولة للمثقفين إلى دودتي كتب، إلى كلبي فلسفة، إلى حيواني سياسة، لا أمل عندهما ولا إيمان ولا حل، لكنهما كعقلين متطورين يقتاتان على الفكر.

(3)

المناضلون القدامى مثقلون بتجربة هائلة، بنضال حقيقي دفعوا ثمنه ملاحقة وسجنا وتعذيبا وخسائر لا تعد ولا تعوض. لكن خسائرهم الأكبر التي لم يدركوها أبدا جاءت فيما بعد، عندما وصلوا إلى ما اعتقدوا أنه الحكمة: انقشاع الأوهام الدفين بإمكانية الثورة، كل ثورة؛ بأنهم قاموا بواجبهم وآن لهم أن يرتاحوا، أن يهادنوا النظام بمعناه الواسع، أن يغيروه أحيانا من داخله، أن يتماهوا معه دون أن يفقدوا ذواتهم، أن يحافظوا على الخير والنور الباقيَيْن ويدافعوا عنهما ويحموهما، أن يصلحوا قدر المستطاع بالشروط الجديدة وعلى مهل، وإلى الأبد، وأن يعزوا أنفسهم بالكتب والأطفال ولَوْك السياسة والتاريخ وتحليل الأخبار وحب الحياة.

(4)

وفي هذه الأثناء، يحدث ما لا يحسب المناضلون القدامى حسابه ويكادوا لا يدركونه، فهم يتورطون أكثر فأكثر مع المنظومة؛ تتماهى مصالحهم مع مصالحها؛ يصبح الثوري مثقفا وموظفا؛ زوجا وأبا وأما؛ مواطنا وزبونا؛ يحارب من جبهة المحامي والحقوقي والكاتب والحزبي والمهني؛ تتحول حربه مع النظام التي لا غبار عليها إلى جزء من الحرب اليومية في إطار تنافس ديموقراطية السوق، داخل دولة القانون التي تبتلع الصراع وتبرّده في دولابها العتيد الرهيب، ويتشظى نضاله إلى أنشطة لا تخرج أبدا عن قواعد المعارضة، حتى إن بدا غير ذلك، وتوحي له المكاسب وكذلك المقاومات المختلفة لنضاله بأنه لا يزال على طريق الثورة.

(5)

وفي هذه الأثناء أيضا، يكبر أبناء وبنات المناضلين الكبار، البيولوچيون والمنتسبون؛ يُربَّوْن في البيت كما يربَّى الأطفال في كل بيت مع فارق نوعي ما؛ يندرجون في مدارس النظام؛ يلقَّنون مبادئ التعامل مع المنظومة: التوازن، الحسابات، الحلول الوسطى؛ تضج عقولهم ونفوسهم بالتناقضات الصارخة، بالماضي المجيد والواقع الأنكر؛ يحلمون بالثورة التي بشر بها الأساتذة وينتظرون مثلهم أن يتغير المجتمع؛ يساهمون في ذلك بما تيسر ويتمايزون عن غيرهم ويحاولون الاتساق مع أنفسهم وأن يؤدوا دورهم في متابعة المقاومة؛ يحبون الوطن كما يعرفونه من الصور؛ يشاغبون أساتذتهم بينما هم واقعون في أَسْرهم وهواهم وضائعون في ظلهم. إنهم، مهما يكن، أبطالهم. يكرهون الشرطة والدينيين والرأسماليين، لكنهم كما ورثوا عن أساتذتهم ذكاءهم وعداواتهم القديمة، ورثوا مصالحهم الجديدة.

(6)

المناضلون القدامى مسمومون بهزائمهم التاريخية وشكهم العميق في جدوى ما فعلوه وحقيقة ما حلموا به. إن انتظارهم الدهري يقودهم إلى استعذاب القصص والاعتزاز الزائد بالانتصارات الصغيرة، إلى التطلع لأن يثبت الزمن حكمتهم مقابل هذا الفصيل أو ذاك، وإلى الرضا بسقف أوطى لا يجلب ذل الخيبة. ألم تتحسن المنظومة بفضل نضالاتهم الطويلة المتعاقبة؟ أليس الطريق طويلا لا يزال قبل التحول الكبير؟ وهم في تخبطهم العظيم وترنحهم كالسكارى وإحداثهم جلبة تليق بعقولهم الفذة وتجربتهم الضخمة يصيبون تلامذتهم بداء الضمير الملوث بحزن الكبرياء الجريح، بجنون التمزق بين الاغتراب والتماهي، وبين التجاوز الإعجازي والسقوط في ورطة المصالح والاحتواء. إن الملاحقات والسجون والتعذيب لم تمر عليهم مرور الكرام. إنهم لم يتداووا من ذلك أبدا. إن تلك أشياء قد تُفْقد العقل.

(7)

يحمل المناضلون بالضرورة أعباء خرافية. فمهامهم الفائقة للعادة تعني أنهم يقومون بوظيفتهم الثورية كأفراد نيابةً عن الجماهير الغفيرة، وفي انتظار تلك الجماهير الغفيرة. وفي لحظات الشك اللعين واليأس المطبق والقبضة الخانقة ينمو الجنون شيئا فشيئا: هل حدث حقا ما حدث؟ أما نراه حقيقة؟ أهناك من سيأتي بالفعل؟ وكما سيشعر تلامذته فيما بعد، يترنح هو منذ وقت طويل بالخيانات. إن الثوري الذي يحتكر الثورة، بنبل لا يغير من حقيقة الاحتكار، لن يغفر أبدا لنفسه وللآخرين. إن الثوري المهزوم المعتزل كائن مشوه، ضحى تضحيات فادحة بما في ذلك تضحيات بروحه، وهو لا يدفع ثمن التوقف عن التطور بالاندثار قبل أن يُلحق تدهوره الضرر بكل زرعه في دراما صامتة بالغة العنف.

(8)

تأتي كل ثورة لتجيب على أسئلة قديمة، لكن سؤالا واحدا يبقى لا إجابة له فيما مضى وإلا لما جاءت ثورة جديدة من الأصل: كيف يتغير العالم؟ كيف نقطع مع الماضي؟ كيف يختفي الظلم؟ كيف تتوقف البشاعة؟ كيف نسعد؟ لكن اللحظات العالية تنحسر حتى قبل أن يستوعب النظام الصدمة. فشروط الانحسار كامنة في المنظومة—النظام الأكبر، النظام بمعناه الواسع، الحقيقي. تعود الجماهير إلى بيتها لتعيد ما كان؛ تذهب إلى العمل وتشتري وتبيع وتلتمس الأمان، ويهرع التلامذة عند التقاط الأنفاس لاستيعاب ما فاتهم من دروس الماضي الجليل الذي طالما راود أحلامهم المراهقة: انتفاضات الطلبة والعمال والانقلابات الوطنية وإسقاط الجبابرة؛ الأغاني الجماعية وسحر الانصهار العلوي في الجماهير؛ إخضاع السماء والتاريخ والأقدار وإيقاف الزمن. يصبح لكل ذلك فجأة معنى وتدب فيه الروح. لكن اللحظة تنحسر بغدر وتفلت من القبضة البطولية، ويعود النهر إلى مجراه وديعا منكسرا بعد أن فاض في دورته الطبيعية، ويتم ترويضه أكثر. يكمل التلميذ دورة حياة الأستاذ وفي لحظة منها ينوء الأول بخيانة الأخير ويجن الثاني بتمرد الأول. يعودان ثملَيْن إلى الضفاف الموحشة الرتيبة بعد أن ذاقا من جديد نشوة اكتساح الأمواج لكل شيء وتبشيرها بأرض جديدة.

(9)

في كل ثورة يبرز، إلى جانب ممثليها الحقيقيين، رجال من طابع مغاير. بعضهم، من جهة، مشتركو الثورات السابقة وعابدوها الخرافيون ممن لا يعرفون مغزى الحركة الراهنة بيد أنهم لا يزالون يحتفظون بتأثير في الشعب لأمانتهم المعروفة للجميع ولشجاعتهم أو لمجرد قوة التقاليد؛ وآخرون هم مجرد زُعَّاق يرددون، العام تلو العام، تصريحاتهم المألوفة ضد الحكومات القائمة ويلقبون لذلك بلقب ثوريين من الدرجة الأولى، هذا من جهة ثانية. وبعد 18 آذار (مارس) ظهر أيضا رجال من هؤلاء وتسنى لهم أن يلعبوا دورا بارزا في بعض الأحيان. وقد عرقلوا الحركة الحقيقية للطبقة العاملة بقدر طاقتهم، تماما كما عرقل رجال من ذلك الطراز التطور التام لجميع الثورات السابقة. إنهم شر لا مناص منه؛ ولا يمكن أن يطرح هؤلاء جانبا إلا مع مضي الوقت ولكن ذلك الوقت ما كان في حوزة الكوميونة.

كارل ماركس – «الحرب الأهلية في فرنسا»، 1871

(10)

كل ثورة تقوم، نجحت أم لم تنجح، تفعل ما يمكن تسميته كسر الحلقة الجهنمية، الحلقة التي كانت تحول دون قيامها أصلا: الخوف، الانقسام، الشك، غياب الوعي… لكن الحلقة لا تنكسر حقا إلا بالاستمرار المرير؛ بتأبيد اللحظة الفائقة للطبيعة وتعميقها بحيث تتخلص من عفويتها وطبيعتها الزائلة. لكن الجذور ضعيفة حقا على عكس جذور المنظومة الضاربة الغائرة في نفوس الثوار أنفسهم، الذين يحاربونها على أرضها وبشروطها. وإذ تنحسر الجماهير يجن جنون الثائر الجديد بينما يقفز جنون القديم إلى مستويات جديدة، صعودا وهبوطا بين ذروة الأمل والثقة وقاع اليأس والشك. يعودون كلٌّ بِطَريق إلى لعبة احتكار الثورة؛ يصبح هذا ناشطا وهذا سياسيا؛ يهرولون في دهاليز السلطة والقانون ليمارسوا أدوارهم الواضحة المعروفة منتهزين الفرص وموازنين بين الضمير والأمان؛ يحاولون هدم الدولة ثم يهبون لإنقاذها مرتعبين؛ يشاركون أعداءهم الغناء للوطن؛ يناقشون الثورة على التليفزيون وسط الفقرات الإعلانية أثناء سقوط شهداء جدد، ويشاركهم النقاش لص الثورة وجلاد الثوار؛ تهولهم قلة عددهم بعد كل فرز جديد؛ يتوقف بعضهم عن الغناء للوطن؛ ينمو وعي أكثرهم، لكنهم يعودون إلى المدرسة والجامعة لا ليحتلوها وإنما ليتخرجوا ويعملوا ويتزوجوا؛ يسب بعضهم دين الجماهير ليتهمهم رفاقهم بالكفر بالجماهير التي صنعت الثورة، ويظل هؤلاء وأولئك على السواء أفنديات، يمارسون علاقاتهم الاغترابية وإنْ بروح جديدة منتعشة ومثقلة بالخبرة الأليمة بعين حالمة وعين سئمة؛ يقدسون شهداءهم ويتآكل إيمانهم بسواهم وتختلف مذاهبهم في عبادتهم؛ يمارسون الدروشة حول أيقوناتهم المجنحة؛ يصبح أهالي الشهداء آل البيت الجدد الذين سيوسعون رقعة الثورة، وأبطال (مدرجات) الكرة نجوم الدوري العائد بمباركتهم ثم شهداء المذابح الجديدة (في المدرجات) ثم أصحاب الأرواح المطالبة بالقصاص في المحاكم وتحقيقات الشرطة والنيابة؛ ينقضون على كل عدو إلا الذي خرجوا إلى لقائه؛ يستنسخون سلطويته في أبنية حركاتهم وأحزابهم وعلاقاتهم؛ لا يجترحون بديلا وحيدا على الأرض يرهص بمجتمع أحلامهم؛ تهرول فلولهم في حرب استنزاف طويلة وراء المعتقلين وضد القرارات وفي طريق الانتخابات والاستفتاءات، وفي ألف مناسبة يائسة لاستحضار المعجزة من جديد؛ يضخون اقتصادهم في صناديق اكتتاب عبثي لدفع الكفالات والرشاوى؛ يكتئبون كما تريد لهم المنظومة ويبتهجون كلما أفرج عن مسجون؛ ويصبح أفضلهم عدميا أو إيجابيا. وتنبذهم الجماهير، وينبذهم النظام، وينبذون بعضهم البعض، لأنهم في الحقيقة، مثل أساتذتهم، لم ينبذوا أنفسهم بأنفسهم. وخلال كل تمرداتهم الصغيرة على الأجيال السابقة، لا يأخذون الثورة معهم إلى المنزل، إلى الحياة اليومية، بعد أن تركوا ما كان سيصبح أسرتهم الجديدة من ثوار الشوارع. وبينما يستيقظ الوحش الذي أقلقوه، يصبحون أساتذة، وينتظرون الثورة الجديدة.

cohnbendit1968
“الثورة…كم أحببناها!”

پوكو حرام: عبد الناصر وطياروه المرتزقة

إهداء: إلى كل المصريين المتعاطفين مع التلميذات المخطوفات في نيچيريا من قِبَل إرهابيي بوكو حرام الذين ارتكبوا مذابح ضد المسيحيين وضد المسلمين غير المتعاونين.

في مطلع الألفية الثالثة يتحلق طلبة بجامعة المنيا حول شاشة كمپيوتر أحدهم ويشاهدون تسجيلات مصورة منوعة مضحكة أو فضائحية أو عنيفة. من النوع الأخير مثلا لقطات لقتل وإعدام بدون محاكمة من الشيشان. ربما لم يكن لهذا علاقة بأن بعضهم يتعاطى العقاقير الكيميائية كما كان رائجا في ذلك الوقت بين الشباب، بقدر ما أن هذه المصنفات كانت منتشرة لسبب ما على الكمپيوترات – في وقت لم تكن الهواتف فيه ذكية ولم تكن سرعات الإنترنت تسمح بتداولها عليه – ضمن الغرائب والعجائب والممنوعات المتنوعة، لكنهم كانوا على أي حال متأثرين.

أحد الڤيديوهات يظهر شخصين أفريقيين داخل حقل، بجوارهما ثالث بخوذة، أحدهما عاري الصدر ومقيد، وعلى شفتي الآخر ووجهه تعبير هادئ باسم واثق بينما يتبادل الحديث بالإنجليزية مع شخص وراء الكاميرا يتحدث الإنجليزية بلكنة أصلية، بينما المقيد يتوسل بلغة غير مفهومة. بعد دقيقتين وأثناء الحديث يطلق الأول النار على رأس الثاني. يصرخ الطالب مصدوما رغم أنه شاهد الڤيديو لأكثر من مرة: “سَكِّته! سَكِّته!”

بعد عشر سنوات، يجلس أحدهم ليبحث عن أصل الڤيديو الذي علق بذاكرته دونا عن غيره، ولم تكن لديه أية فكرة عن خلفيته. وبعد أن بحث طويلا بكل الكلمات المفتاحية المحتملة، وجده. اللقطات من الحرب الأهلية النيچيرية لإعدام بدون محاكمة لرجل مشتبه في كونه جنديا بيافريا، من أرشيف قناة إخبارية أوروبية. وتأتي المشاهدة الجديدة بحوار (كله بالإنجليزية) وتفاصيل مختلفة عما في ذاكرته.

المعدوم في الڤيديو هو ماثياس كانو أثناء مداهمة لقرية من قِبَل الجيش النيچيري الفيدرالي. والڤيديو مرفوع كمحاولة للتعرف على القاتل (برتبة كاپتن) “لكي ترقد روح كانو في سلام.”

في مقال ويكيپيديا الإنجليزية عن الحرب المعنية يلفت نظر الباحث من ضمن قائمة المتحاربين علم الجمهورية العربية المتحدة، الذي ظل اسما رسميا لمصر حتى بعد انفصالها عن سوريا بل ووفاة عبد الناصر، ضمن أعلام عربية أخرى، إلى جانب إنجلترا والاتحاد السوڤييتي ودول أفريقية. وبمزيد من البحث، ومع قلة المصادر بشكل غريب ومريب في زمن انفجار المعلومات–وكلها بالإنجليزية، لم يصل بالعربية إلى شيء تقريبا سوى رسالة جامعية على موقع الأهرام عرضها بطرس بطرس غالي عن الحرب في مجلة السياسة الدولية سنة 1975، دون أن يذكر مصر.

أما المصادر الإنجليزية فلا تذكر مصر إلا بشكل عابر لكنها تتفق على الدور الذي لعبته: قيام الطيارين المصريين وهم يقودون طائرات حربية روسية حديثة (إليوشين وفقا لبعض المصادرباعتراض طريق رحلات المؤن والإمدادات للجانب البيافري وقتل المدنيين البيافريين، إذ ألحقوا بهم خسائر كبيرة في الأرواح وهم في مواقع مدنية، ومن على ارتفاع منخفض، مثل مراكز إيواء اللاجئين والمستشفيات وغيرها بشكل واضح فيه استهدافهم، وكل هذا بعد وقت قليل جدا من هزيمة 1967 المرتبطة عسكريا بتدمير سلاح الطيران المصري. وهكذا فإلى جانب قوات الشمال النيجيري المسلم، قام “تحالف أممي من بريطانيا العظمى والاتحاد السوڤييتي ومصر وجامعة الدول العربية دون شفقة بقتل عدة ملايين من الأطفال والنساء والرجال الإجبو/البيافريين قصفا و…تجويعا.

وبالعودة إلى ويكيپيديا الإنجليزية، حيث أغلب المصادر المذكورة هناك في هذا الجانب تعود إلى أبحاث وكتب غير متاحة على الإنترنت بأي شكل، فمن الواضح أن الانفصاليين البيافريين كانوا مرتبطين بشكل ما بإسرائيل (مع فرنسا والبرتغال ودول أفريقية) ومع ذلك فإن قائمة المتحاربين على ويكيپيديا الإنجليزية لا تضع إسرائيل ضمن المتحاربين، على عكس ويكيپيديا العربية التي تضعها ولا تذكر مصر على الإطلاق.

اتخذت الحرب داخل نيچيريا شكلا إثنيا (عرقيا ودينيا وثقافيا في آن، وإقليميا أيضا حيث تقع بيافرا الانفصالية قصيرة العمر في الجنوب الشرقي)، وسرعان ما تحولت إلى قضية إنسانية بسبب المجاعة والأمراض. وفي المجمل أسفرت الإبادة عن سقوط ما يتراوح من مليون إلى ثلاثة ملايين مدني.

وفي حوار جمال نكروما بعد ثورة 2011 مع محمد فايق “رجل عبد الناصر في أفريقيا” ونائب المجلس القومي لحقوق الإنسان بمصر وقت إجراء الحوار، ورئيسه فيما بعد، يقول فايق إن من ضمن التحديات التي واجهتها سياسة عبد الناصر في أفريقيا أنه “عند نشوب الحرب الأهلية النيچيرية بعد انفصال بيافرا ثارت ثائرة أمم أفريقية عديدة متعاطفة مع القضية البيافرية حيال موقف القاهرة الموالي لنيچيريا. واتهم الرئيس التنزاني چوليوس نيريري ونظيره الزامبي كينيث كاوندا مصر بدعم نيچيريا بسبب الانحياز الديني.” لكن أبطال الاستقلال أساؤوا فهم زميلهم المصري، بحسب فايق، الذي يقول إن الأخير أيد “سيادة نيچيريا ووحدتها الوطنية واتصالها الجغرافي”. و”عارض…بضراوة بلقنة أفريقيا”. وبقي أبطال الاستقلال أصدقاء مقربين “بغض النظر عن الاختلافات السياسية” و”كانوا يتحدثون بصراحة شديدة وتبادلنا الرؤى والأفكار بحرية”.

يصدق على الإنترنت بشدة القول المنسوب لهيرقليطس “إنك لا تنزل النهر مرتين”. وفي السنوات الأخيرة بالذات، تتسابق المؤسسات الصحفية والأراشيف الكبرى في نشر رصيدها وإتاحته للجميع على الإنترنت. وهكذا نتمكن لأول مرة من الوصول ليس إلى مقالات عن اغتيال السادات مثلا وإنما إلى نصوص وتسجيلات التقارير الصحفية الواردة من الوكالات والمنشورة والمذاعة في المنابر المختلفة في ذلك اليوم والأيام التالية ومرورا بجلسات محاكمة مغتاليه، إضافة إلى ڤيديوهات كالمذكورة أعلاه خرجت من مكتبات هواة التسجيلات والجامعين أو سربت من العاملين في مؤسسات.

لكن تبقى غريبة قلة المعلومات المتاحة عن حرب أهلية/جريمة إبادة حديثة ومجاعة كبرى دامت ثلاث سنوات على الأقل، ولعلها تشي بقلة المعلومات خارج الإنترنت أصلا. وربما كان من ضمن الأسباب بطء المؤرخين، إذا استبعدنا فكرة التكتم والمسكوت عنه. وبالطبع فإن الصمت لا يخص دور مصر فقط، بل ربما كان سببه الأساسي ضلوع قوى غربية كبرى. ولم ينشر تشينوا أتشيبي (وهو من إجبو بيافرا) مذكراته عن الحرب، “التي طال انتظارها” وفقا لبي بي سي، سوى في 2012، قبل وفاته في العام التالي. وحتى في الأدب، لم تظهر رواية تشيماماندا أديتشي المولودة بعد الحرب سوى في 2006. ومن اللافت أن مترجمتها إلى العربية، بعنوان «نصف شمس صفراء» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009)، هي فاطمة ناعوت، الكاتبة البارزة المؤيدة للسيسي والجيش بعد انقلاب 30 يونيو والمذابح التي تلته والمحبة لعبد الناصر.

يرد ذكر مصر والمصريين مرتين في الرواية. ففي صفحة 425 من الطبعة المصرية يقول أحد الأبطال:

بوسعك أن تخبرهم كيف أننا مستمرون في الصمود منتصرين برغم الميج ال17 النيچيرية وال28 وال29 التي يقودها طيارون روس ومصريون وتقذفنا بالقنابل كل يوم، وكيف أن بعضهم يستخدم طائرات ركاب يدحرجون منها القنابل بخشونة ليقتلوا النساء والأطفال…

وفي صفحة 469، يدعو قس في صلوات الصباح قائلا:

الرب يبارك فخامته! الرب فليعط تنزانيا والجابون القوة! فليدمر الرب نيچيريا وبريطانيا ومصر والجزائر وروسيا! باسم المسيح المقدس!

وفي مذكرات أتشيبي، يرد ذكر المصريين 4 مرات منها مثلا في صفحة 136، تحت عنوان “دماء، دماء في كل مكان”:

وجد البيافريون أنفسهم تحت هجوم كثيف بعد هجمة وسط الغرب. فسيطرت الفرقة الأولى في الجيش بقيادة محمد الشوة، بسرعة، متقدمة مع ثيوفيلوس دانچوما، على مدينة نسوكا الجامعية، ثم قصفت بلا هوادة عاصمة بيافرا بأسلحة ثقيلة. ساعد في العملية العسكرية الطيارون المرتزقة المصريون وهم يقودون طائرات الجيش النيچيري الجديدة البريطانية و…التشيكية و…السوفييتية.

اسم بوكو حرام Boko haram، حيث الكلمة الأولى بلغة الهاوسا والثانية عربية، قد يعني “الفساد حرام” وقد يعني “التعليم الغربي حرام”، حيث كلمة بوكو تحريف لكلمة book. أما كلمة poco فهي اختصار لمصطلح postcolonialism (ما بعد الاستعمار). وقصة مصر في بيافرا ترينا وضعنا بالضبط في ظل ما بعد الاستعمار، وأن ما بعد الاستعمار حرام، حرام يجب إزالته.

[نُشر على موقع المصري اليوم بتاريخ 16 مايو 2014، والجمل بالخط الغليظ تصحيحات تعذر إدخالها هناك وفيما يلي تعقيب رُفض نشره.]

تعقيبات على تعليقات القراء

101011_r20077_p886-934-1200-12132801

أثار مقالي بالمصري اليوم (المنشور قبلها بأيام على مدونتي) شيئا من الصدمة المطلوبة عند المكذبين والمصدقين على السواء. وهذا أمر محمود كما أن الإنكار مفهوم (بل وجيد من ناحية فهو يدل على استبشاع الأفعال المذكورة)، وعبادة عبد الناصر أيضا مفهومة. وسأتناول هنا انتقادات الجانبين بدون ترتيب محدد:

  1. القصة كلها مختلقة: في الحقيقة لم أدّع في المقال أنني أكشف أو أفضح أي شيء. وأغرب ما في قصة بيافرا أنها ليست سرا. وكل ما أردت لفت الانتباه إليه هو كيف أصبح تاريخ حرب وجريمة كبيرة كهذه مسكوتا عنه وكيف لا يزال البحث عن حقائقه أمرا صعبا بعد مرور أكثر من 4 عقود. وحتى دور مصر ليس سرا وقد أكدت على الواقعة الغريبة الخاصة بترجمة فاطمة ناعوت الناصرية السيساوية لرواية أديتشي دون أي رقابة، وأن هذه الترجمة للمفارقة صادرة عن الذراع الرئيسية للنشر في الدولة المصرية. وفي هذا المقال بالأهرام والذي لم أذكره في المقال السابق لأنني اكتشفته لاحقا، ونشر منذ أقل من 3 أشهر، يتحدث محمد فائق، “رجل عبد الناصر في أفريقيا” وسبق ذكره في المقال السابق، عن تفاصيل عسكرية أكثر تخص دور مصر وطياريها في الحرب. ولعل ناعوت وفائق لا يجدان غضاضة فيما فعلناه في بيافرا أصلا. ويذكر سعيد الشحات في مقال باليوم السابع من 2010 طرفا من خبر الطائرات الروسية ودور مصر. (للمزيد عن فائق وعبد الناصر وبيافرا راجع رواية مؤيدة لعبد الناصر وتصف العملية “الطريفة” كجزء من “مقاومة الاستعمار” صفحة 241 من كتاب «أحاديث في السياسة والفكر والسلام والتعليم»، محمد صالح المسفر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005، وفي الأسفل صورة منها، ويمكن مطالعتها أيضا على كتب جوجل هنا.)                    Screenshot from 2014-05-19 204625
  2. المعلومات العسكرية عن الطائرات المستخدمة خاطئة وتكشف الكذب: لم أدّع أي خبرة عسكرية (البلد والحمد لله مليئة بالخبراء العسكريين ولست والحمد لله واحدا منهم) ولم أدّع القيام بتحقيق استقصائي. ويمكن لغيري تدقيق هذه المعلومات. وكل معلومة وردت بهذا الصدد أحيل القارئ فيها إلى مصدر كما أن اتفاق المصادر ملحوظ. وجدير بالذكر أنني استبعدت كل مصدر مثير للشك ومن ضمن ذلك المصادر الإسرائيلية. وأخيرا فبدلا من أن يجتهد المكذبون في بيان أي ثغرات متخيلة، دعونا نتفق أن الطيارين المصريين المرتزقة، أو المحاربين بالوكالة إذا كان تعبير “مرتزقة” جارحا للمشاعر، لم يكونوا في كل الأحوال يقودون طائرات ورقية.
  3. المقال يعتمد على ويكيبديا وهي مصدر ضعيف: لم تذكر ويكيبديا إلا في سياق عرض قصتي الشخصية الخاصة باكتشاف الأمر. بل إنني لفتت النظر إلى التفاوتات بين المعلومات المذكورة في النسختين العربية والإنجليزية وكان غرضي من ذلك أيضا التأكيد على فكرة أساسية في المقال وهي: من يكتب التاريخ؟
  4. الغرض من المقال غير واضح: تزامن نشري للمقال على المدونة، وكان قبل ذلك مجرد خاطرة سريعة على فيسبوك من العام السابق، مع ردة فعل عالمية امتدت إلى مصر على اختطاف التلميذات النيجيريات، ومن هنا كان الإهداء إلى المتعاطفين ليزدادوا تعاطفا وفهما من ناحية، ولنختبر حقيقة تعاطفهم من ناحية أخرى. فقبل أن تظهر بوكو حرام بعقود، شاركت مصر في حرب ذات أبعاد طائفية تطورت إلى إبادة الشعب نفسه الذي يتعاطف المصريون معه اليوم. ولهذا ربطت، إن كنت في حاجة إلى الربط أصلا، بين الإرهاب على طراز القاعدة في أفريقيا، وبين حروبها الأهلية، وبين تاريخ ‘أبطال الاستقلال’، فكل هذا يحدث في إطار ما بات يعرف بعملية ووضع ما بعد الاستعمار: الاستقلال الاسمي لمخلّفات استعمار لم يغير إلا شكله القديم. اللعب بالألفاظ على كلمة “بوكو” أكثر من مجرد زينة بلاغية. وحرب عبد الناصر بالوكالة للاتحاد السوفييتي وإنجلترا ونيجيريا في الوقت نفسه توضح ذلك. كما أن تورطه في ذبح المدنيين البيافريين باستخدام طيارين مصريين بعد وقت قليل مما جلبه علينا من نكسة ذات آثار درامية باقية جانب آخر من عبث ومآسي ما بعد الاستعمار، ومن نافلة القول إنه يزيدنا خزيا. والناصرية الرابضة في حياتنا بعد ثورة يناير 2011، والتي انتكست جزئيا على الأقل بسببها، تجعل القصة ذات معنى أكبر وأكثر معاصرة بالنسبة للمصريين، حتى لو اعتبروا جرائم كهذه تسقط بالتقادم.
  5. حداثة سن الكاتب وعدم معاصرته للأحداث: هذه النقطة أتفه من أن نهتم بها، فبداهة أن التاريخ ليس حكرا لمعاصريه وإلا سنلغي باستمرار كل ما حدث قبل أن يولد ويعي أكبرنا سنا! وربما كانت حداثة سن الكاتب عذرا لجهله بالأمر حتى وقت قريب، أما الكبار فما حجتهم؟ وأخيرا فحداثة السن نعمة بفضل الإنترنت، أحد أبطال قصتي، وبفضل معاصرتي لثورة أطاحت بحاكم كان وقت ارتكاب مذابح بيافرا قائدا لقاعدة جوية فمديرا للقوات الجوية فرئيسا لأركان حرب القوات الجوية فقائدا للقوات الجوية، وهو من يُسأل في ذلك وليس أنا فهو بالطبع يعرف الكثير.

Save