عن رغبة مشوهة في أن تكون جزءا من القصة

السائحات

“هم الإدارة يا ليل
واحنا الحيارى”
—من أغنية لعدوية، “يا ليل يا باشا”، حسن أبو عتمان

مثّل فيسبوك وتويتر فرصة تاريخية لأبناء وبنات الطبقات العليا والوسطى المرتفعة في جنوب العالم ممن اختنقوا بملل طبقتهم—الملل الذي أضفته على العالم طبقتهم في أصلها الشمالي. كان وضعهم الطبقي المميز قد منحهم الرفاهية الكافية للتأمل والتطلع والمقارنة والتوفيق بين تخلف مجتمعهم المحافظ وانفتاح المجتمعات الأقل محافظة. ثم منحتهم الوسائط الجديدة المجال لإشباع فضول التجربة لديهم وتحقيق اللقاءات المستحيلة. كما أراحتهم عوامل مسويّة، أي مساواتية مخادعة، بردم الفجوة دون جلبة، بما سرعان ما سيتبين للعالقين على الناحية الأخرى – إن لم يسقطوا طويلا في الفجوة التي ستنتفتح تحتهم فجأة من جديد – بأنها لم تُردم سوى بخدع لغوية-سينمائية وديكورات.

هذه اللقاءات العابرة تتخذ، في أشدها إيلاما بأثر رجعي، شكل الصداقة أو الحب أو الرفقة السياسية. وإيلامها مركّب: غدر العالم من خلال استقراره؛ كثافة التجربة القصيرة؛ تفاوت القدرة على أخذ القرارات؛ الوعي اللاحق بكل ما كانت الديكورات والخدع قد نجحت في إخفائه.

ولأن أشياء كهذه، مهما يكن، مكلفة، كما أنها تعتمد على عوامل زمنية تقوي إمكانات الفرصة التكنولوجية – كأنْ تقوم ثورة مثلا وتنحسر – فسيهتدي أبناء وبنات الطبقة إلى حل أقدم قليلا وإن بشروطه التكنولوجية الجديدة أيضا:

لقد ألهم البؤس الاجتماعي المرتاحين ماديا بالرغبة الملحة في أخذ الصور، وهو أرق أشكال الافتراس، من أجل توثيق واقع خفي، أي واقع خفي عنهم هم.

محدقا في واقع الآخرين بفضول، بانفصال شعوري، باحترافية، يشتغل المصور الفوتوغرافي المنتشر في كل مكان كما لو كان ذلك النشاط يتجاوز المصالح الطبقية، كما لو كان منظوره عموميا. في الحقيقة، تبدأ الفوتوغرافيا في الاستقلال بنجاح بوصفها امتدادا لعين فلانير [متصعلك] الطبقة الوسطى، الذي رسم بودلير خريطة دقيقة لحساسيته. الفوتوغرافي هو … ذواقة للتماهي العاطفي، … . الفلانير… ينجذب إلى… واقع غير رسمي متوار خلف واجهة الحياة البورجوازية “يمسك به” الفوتوغرافي، كما يمسك محقق التحري مجرما.

—“Melancholy Objects”, On Photography, Susan Sontag

تشبع العلاقات واللقاءات العابرة مع غير أبناء الطبقة احتياجات شتى لدى أبنائها: المغامرة (المستحقة بفضل التميز)؛ تخفيف الضيق بالغربة، على الأخص مجتمِعا بإحساس ما بالذنب يشوشر على الاستحقاق ويعكر صفو التميز وتقويه الثورة القصيرة الكثيفة بدورها؛ الشعور الطيب بتجاوز الإحسان إلى الكرم والقوة والتضامن (شعور بأننا من ناحيتنا حاولنا). وتشترط هذه العلاقة السياحية دون إدراك السائح(ة) بالضرورة درجة من الاحتماء، حيث لا يدرك بوجودها مثلا في شقة الآخر الفقيرة أحد، ولا ترى بصحبته إلا في سياقات ملتبسة أو عامة، وتكتمل مثالية هذا الاختفاء عندما يتخذ اللقاء شكل صور فوتوغرافية لهؤلاء الآخرين الأقل حظا بمسافة موضوع السياحة الإنسانية/السياسية، حتى لو عنى هذا النجاح أمانا أكثر/مخاطرة أقل وكثافة أقل، تُحل بوفرة الصور.

الإرهابي

لم يعد ولع الإرهابيين بالصور وهوسهم بإتقانها أمرا جديدا—ربما لم يكن أبدا جديدا بسبب طبيعة الإرهاب حتى لو سبق عصر الصورة بمعناها الحديث. لكن الأشد أصالة لدى الإرهابي هو هوسه بالقصة. نعرف ذلك الشعور الذي يتنزل علينا رويدا بوراثة العالم، وبالتالي امتلاكه نسبيا، ويعذبنا موضعنا القلق وغير المحدد من هذه القصة التي تتكشف أمامنا ببطء ولكلٍّ حسب مداخله إليها. ونعرف أولئك الذين تثبّت انتباههم على قصة بعينها إلى حد الكلام عن دورهم (الوهمي) فيها: كيف عرف(ت) ريا وسكينة مثلا، كيف أنه هو من اختطف الطفلة الأمريكية التي تمثل قضيتها لغزا غير محلول بعد، قبل أن تسخف الواقعية والاحترافية حماسهم فتدفعهم إلى الإنكار أو تفرج عنهم مع توصية بالعرض على طبيب.

يؤمن الإرهابي في الكثير من الأحوال بأمرين متناقضين ولكن منسجمين: حتمية التاريخ وغائيته، وحتمية دوره كذلك (أي حاجة التاريخ إليه). للحماقات الكبرى سحرها الخاص الفائق على الأخص لدى الغاضبين المغبونين عميقي الشعور بالضعة والهوان. فهذا العاجز عن عمل أشد الأفعال بساطة واتخاذ أكثر القرارات تفاهة بسبب قيود النظام السياسي-الاجتماعي يمكنه بتفجير نفسه، أو، وهو الأشد غواية هنا، تنفيذ مذبحة ثم الهناء بأضواء المسرحية، “تغيير” التاريخ. وكما تؤتي الصورة فعلها بمصاحبة سردية (مهما بلغت قوتها وجودتها: تعليق الصورة كأضعف الإيمان—بنيامين، سونتاغ، ماركر) تكتمل فخامة المذبحة مع مانيفستو يصعد بين عشية وضحاها إلى قمة “الأعمال” الأعلى قراءة في دوائر بعينها، ويكتسب احتراما إجباريا بسبب جدية الأمر وموضعا في السردية التي لم يكن البطل-المؤلف الجديد حتى صباح اليوم سوى قارئها المهووس.

هـ. م. س.

في بورصة جلسات النميمة بأنواعها تعلو قيمة بعض القصص على غيرها وتخضع للتكهنات والمضاربات، أو تتوزع الاهتمامات عليها حسب الذوق والرغبة. وبالرغم من أن ترديد كل إشاعة وقيل وقال هو في أحد وجوهه – على الأخص عندما تصاحب ذلك ثقة وتفاصيل وتأكيدات إضافية لإضفاء المرجعية والمشروعية – دعوى امتلاك للقصة ومزاحمة لوضع قدم فيها، فبعض هذه القصص يغري دونا عن غيره بـ”التدخل”، ربما تحديدا لغموض تفاصيله ونقصه وطابعه التفاعلي، كالمؤلفات التي تهدف إلى إشراك القارئ ودراسة الاحتمالات.

في الحياة الحقيقية لا تصبح هذه احتمالات بقدر ما أنها مساحات للفرجة المستمرة؛ مجسمات للتنفيس عن الغضب والانتصار للتحيزات؛ مواد للعب والتشكيل والتعويض عن الحسرة أمام قصص أخرى مغلقة. يطمح البعض بفضل موهبة أو موقع أو جدية أشد في مساهمة مختلفة نوعيا، مضفيا المشروعية والمرجعية بما هو أكثر من ترديد الكلام: يمكنك بالفعل أن تصبح جزءا من “القصة” بأثر رجعي. أنت هنا مؤلف بمعنى أكثر إيجابية ومادية. كما يمكن للروائي أن يدرس جعل كمال وعايدة يلتقيان في الجزء الثالث، يمكنك أن تدبر بالفعل لقاء بينهما في الحياة الحقيقية، لأول مرة منذ سنوات، لم تشهدهما قبلها، لم تعرفهما، لم تكن موجودا، وتستمتع بمراقبة ما يحدث، نتيجة فعلك الخَلقي، بقوتك، بوجودك في زمان ومكان لم تكن فيهما. لقد امتلكت القصة بالفعل حتى قبل ترديد الكلام: عندما اختزلتها بينك وبين نفسك إلى مشاهدها الأخيرة أو طبعاتها الرائجة. كل ما يتلو ذلك هو صيرورة امتلاك القصة، أو بالأحرى نهبها. أنت أيضا «بطل من ورق».

“الثورة”

Conference-of-the-Birds

وهكذا فإلى الحداثة انتميت أم إلى ما بعدها أم إلى ما قبلها، ستنتهي دائما إلى “دخول” القصة، وإلى امتلاكها كرواية واحدة كبرى أو ممزقة نهب كل ريح، راغبا أو مجبورا، بحماس أو – مثل أغلبنا – بدون (أو بالأحرى، بحماس أقل). ربما لا يمكن تصور التاريخ ومجرد الاتصال الاجتماعي دون هذه العملية—فإلغاء القصة أو تأليفها مجددا بقدر ممعن في الخيال النقدي يتطلب شروطا باهظة التكاليف وخارج الشروط الإنتاجية الحالية. ولكن هل يمكن تصور هذا الأمر الأخير نفسه – إذا أسميناه “الثورة” مثلا – كعملية خالية من امتلاك القصة إلى هذا الحد أو ذاك، على هذا النحو أو غيره؟

هل يمكن لمن تنضم إلى قصة مهمة باستخدام وسم موحد يعلن حضورها ودخولها، #أناـأيضا، أن تمتلك القصة الكبرى أيضا بقدر من الإبداع يتخيل القطع حقا مع الفصول والأجزاء السابقة؟

هل يمكن لمن يقضي عمره في المقاومة والتمسك بقصته وثقافته أمام من يسلبونه إياهما (حتى موته يسلبونه إياه) أن يبذل أيضا الجهود لنزع طابع الملكية الخاصة – بكل ما تعنيه من التفاوت الرهيب في القدرة على الاستحواذ وتكريس القصص – عن كل قصة بما في ذلك قصته؟

الرواية الكبرى سجن موحش فسيح إلى حد يوحي بأنه مفتوح (جماعي/جماعاتي)—«منطق الطير» للعطار؟ الروايات المتعددة متاهة جحيمية باذخة (فردية/فردانية)—“حديقة الطرق المتشعبة” لبورخس؟ القصة الكبرى ليست هنا بعد. ويتطلب اكتمالها بما يكفي توفيقا عميقا ومقنعا لعدد وافر من كل شيء وعكسه، كل قصة وأخرى مغايرة ومضادة. إذا كان للانشطار النووي أثر الدمار الشامل، فهو يعطينا فكرة عن الأثر الشامل الآخر لهذا النوع من اتحاد الذرات.

لقد ناكتنا الحياة

لقد ناكتنا الحياة يا جماعة. وأنجبت منا عيالا، أجنة، جنينا واحدا على الأقل نحمله، نحملها، إلى الأبد. ناكتنا وأنجبت منا ومن الضروري الآن أن: ١- نعترف بأنها ناكتنا وأنجبت منا. ٢- نعترف بالعيال. ٣- نخرج هؤلاء العيال ليلعبوا جميعا في الشمس لأول مرة في حديقة كبيرة جدا ننشئها لهذا الغرض. ٤- نستخدم وسائل منع الحمل من الآن فصاعدا وإلى حين بيقظة تامة. ٥- نتخلص من هذا الفالوس العملاق الذي تنيكنا به الحياة ونضعه في المتحف مع آثار الحضارة. ٦- نبكي ونصرخ طويلا جدا جدا في الحديقة. ٧- نتناك بشكل جديد تماما، بشكل غير حضاري، بشكل لا تحمل فيه كلمة نتناك كل الأحمال التي تحملها الآن.