“ما تخافش م الكلب، خاف من صاحبه.”

81owaz9kyvl._sl1500_

في الطريق إلى البنك حارس ڤيللا في الحي الراقي العريق يطرطر في وضح النهار تحت شجرة بحذاء السور فيما بينه وبين السيارة الرباعية الفارهة وهو في زي شركته الموردة للخدمات على الرصيف الخالي من المارة.

في البنك عاملة تصور البطاقات ربما أصغر مني أو في سني أو أكبر، “ربما” لأن جمالها الغابر الرشيق من جراء العمل والحرمان جففه الفقر، في تضاد غير مريح مع أناقة “الياقات البيضاء” الشتوية بشبشبها البلدي وقدميها الوسختين وزيها العلوي البرتقالي الذي يعلن اسم الشركة الموردة للخدمات Arab Group for [جزء من الاسم يغطيه حجابها] Services وتحته هذه العبارة الظريفة: Maybe I l<3ve my job ،التي ربما ترجمها لها أحد الياقات.

فيم وجود ومهانة وجود هذا “الحارس” وهذه “العاملة” مع كل هذه الكلاب والكاميرات المصوبة من الأسوار وماكينات تصوير المستندات؟

أقرأ ما تيسر من كتابات ماركس الاقتصادية “الإنسانية” الأولى. يقول البعض إنه فهم القرن التاسع عشر فهما عميقا لكن الماركسيين عجزوا عن تقديم تفسير أو حل يناسب القرن العشرين. بينما يعتقد البعض أن المشكلة أغرب ربما من ذلك: “فهم” ماركس القرن العشرين والحادي والعشرين بأفضل مما “فهم” التاسع عشر.

الثورة (الفرنسية) مستمرة، ربما؟

في الحديقة التي أعدها بعض السكان لتصبح مساحة مجتمعية، فوضعوا أريكتين ودعوا فنانا لنصب عمل فني عام يمثل بالحديد المطلي بالأسود عاملا على دراجة يحمل على رأسه “قفص عيش”، يطلب مني فرد مباحث بدماثة، بعد أن استجوبني وكشف على بطاقتي، أن أغادر لأن الجلوس هنا ممنوع، في هذا المكان المحاط بالسفارات. عدا هذه الحراسات لم أر الشرطة هنا إلا في حملة ضخمة مدججة بأسلحة جديدة لإزالة مشاريع تجارية متناهية الصغر لا تكاد ترى بالعين المجردة في الطريق الواسع الخالي.

في حديقة أخرى مهداة من عائلة أعمال، على أنقاض الحديقة الأصلية التي كانت تستر المراهقين والباحثين عن خلوة حسية وربما متعاطي المخدرات، شباب وربما شابات صغار من أحياء فقيرة جاؤوا للفرجة والاختلاس ومضايقة الآخرين، لا من “المغتربين” ولا ممن يبدو عليهم أنهم من أهل الحي، وإنما على الأخص من الشبان والشابات الصغار الفقراء من أفريقيا السوداء، اللاجئين ربما.

إنه بالرغم من ذلك حي رائع بالتأكيد، ليس فقط للدراجين وأصحاب الكلاب. حي يهرب إليه “القادرون” من الراغبين في اختلاس يطول أو يقصر، في شيء من الحراك وفي شيء من الحرية، وأشياء أخرى جيدة ومتناهية الصغر.

«متسللون» (خالد جرار، ٢٠١٢): المدينة كسجن والمستعمرة كحديقة حيوان

كشخص لم يطأ الأرض خارج بلد ميلاده أصبح فيلم بونيويل لعنة محلقة فوقي. ففي «الملاك الهالك»، يُحبس رجال ونساء بورجوازيون داخل منزل مضيفهم بعد حفلة. الأسباب في الفيلم سوريالية وربما رمزية لو قبل بونيويل فك رموزه. أما حالتي فلا هي سوريالية ولا أنا هؤلاء البورجوازيين.

كانت إجابتي التقليدية على سؤال لِم لَم أسافر هي تارة عدم امتلاكي كلفة السفر، وتارة علاقتي المرتبكة والمبتورة بالمؤسسات التي انتميت إليها والتي لم تسمح أبدا بالوصول إلى نقطة تسفيري على غرار الآخرين. بعد الثورة وعيت فجأة على النقص الفادح في هذه الإجابة. إننا لا نسافر أو لا نسافر كما نريد لأن حريتنا في التنقل مقيدة. أصبح هذا طبيعيا بحيث لم نعد نرى فيه حرية مسلوبة. نتحدث عنه فقط في حالة حظر تجول أو احتلال.

في الماضي سافر الفقراء قبل الأغنياء. لهذا قالوا إن “أرض الله واسعة.” و”الرجل تدب مطرح ما تحب.” و”مطرح ما ترسي دق لها.” السفر الآن ميزة. العالم يغلَق. لكن الأيدي لا تتوقف عن الدق. “لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟” إنهم يدقون الآن فماذا حدث؟ في فيلم نرويجي عن الهجرة غير الشرعية وجرائم الشرف يتسلل مراهق كردي في خزان نفط أيضا، لكنه يصل لأن فن الهروب تطور كثيرا.

في المدينة-الدولة أثينا، عاش المواطنون رفاهية مادية وفكرية وسياسية على حساب المستعمرات والعبيد على الهوامش. الضفة الغربية الفلسطينية هي المدينة العكس. المدينة اللادولة للعبيد المستغنى عن خدماتهم. حيث تتقاطع في أذهاننا مشاهد عبور الطريق السريع وجدار العزل مع قوارب المهاجرين غير الشرعيين الغارقة والتائهة والمتربص بها، والمرعبة في كل الأحوال. تتقاطع المدينة مع صورة السجن وخط الموت حوله، الذي أصبح اسمه مصطلحا لمواعيد تسليم العمل النهائي – ديدلاين.

هل العالم يغلي لأننا لم نعد نقبل أو نملك تحمل هذه الحدود؟ من رسمها ورسم علاقاتها؟ بالتأكيد ليس نحن. كيف نحاصر حصارنا؟

في عالم تتمرد على سكانه الطبيعة، يتماهى السكان مع الحيوانات. يطفرون مثلهم حول الأسوار. كما في  «يد إلهية»، حيث يعرف السجين مغمضا أرضه أكثر من الضابط الإسرائيلي – مهما بدا ذلك كليشيهيا إلى حد مضحك أو متغافلا عن حقيقة أن سلطة الاحتلال تملك آلة معرفتها الخاصة الاستعمارية – تعرف هذه الكائنات أرضها كِعَرس الليل، لتخرج من مخابئها وأقفاصها. الشيء الغريزي الحسي الذي تصدره تجربة التسلل الخطرة يقاوم المعنى المهين المتمثل في الحَيْوَنة.

[كتب هذا النص في الأصل ضمن أنشطة ورشة كراسات السيماتيك، دورة بإشراف ريما مسمار.]

تحديث:

IMG_20160528_103011
أوسلو، مايو ٢٠١٦: خطوة صغيرة للإنسانية، خطوة كبيرة لإنسان.