أخلاق القرية الذكية

(١) في مصر يشن نقيب الموسيقيين حربا على شاب صاعد النجومية بفضل نوع شعبي إلكتروني سهل الإنتاج، حرب قطع عيش لا مجرد حرب عدم اعتراف باردة، يدعمها المجهود الحربي للجان الرقابة والمهن الفنية لضبط وتمرير ما هو فن وما هو شرعي وما هو صالح وما هو نافع، لتُظهر النظام بصورة عجيبة، ليست معادية للفن والثقافة والحرية بأكثر من معاداتها للسوق والرأسمالية، في بلد يعاني منها حَمُّو وبقية الشباب من التعطل والتخلف الاقتصادي ويُمنعون الآن من اجتراح فرص لأنفسهم وخلق وظائف لغيرهم، وليس بالضرورة ولا بوضوح لأن العمل معارض أو هدام أو منحط، إذ يكفي أن يكون صاحبه غير ملم بالقراءة والكتابة اللازمتين ربما لعضوية اتحاد الكتاب. على غرار روسيا الستالينية وألمانيا الهتلرية ومصر الناصرية يرى هؤلاء نظام بلادهم، رأسمالية (دولة) من نوع أو آخر مخطط مركزيا إلى هذا الحد أو ذاك تحت نظام شمولي يغذي صورة قومية متعاظمة تسير الأمة في ركابها إلى المجد والخلاص أو مجرد البقاء. الفارق الهزلي هنا هو أن السلطات الثقافية لا تعبأ حقا بتحقق أي من هذه الشروط القمعية لتشديد قبضتها: شمولية غير مستوفاة المتطلبات وغير قادرة على المنع الفعلي في عصر الاستنساخ الرقمي ضمن دولة تابعة تماما للأجندة الليبرالية الجديدة.

(٢) في مصر وسوريا بعد ٦٧ تركت الدولة مجالا للفنانين الغاضبين وأعطتهم المؤسسات والأدوات ليصنعوا أفلاما مثلا كما فعل عمر أميرالاي وعطيات الأبنودي وحسام علي (المعرض الزراعي)، على ألا تعرض لجماهير حقا قط. يستغرق الأمر عقودا حتى يدخل الإنترنت وأخرى حتى يتسنى نشرها ثم تداولها (وليس “توزيعها”) عليه، وأبدا فوق ذلك ليكتشفها من لا يعرف بوجود هذا الشيء وهذا العالم، على الأخص بعد تقديم مناسب يحكمه في النهاية مزاج الخوارزميات. تظل في مقبرتها المعروفة بالمركز القومي لتحقق تنويعة غريبة مما أسماه بنيامين “القيمة المعبدية” للعمل الفني في عصور ما قبل الحداثة، مرئية فقط للنخبة المثقفة والغاوين، ولا بأس من أن تعرض من زمن لآخر في نادٍ بل على جمهور رمزي ما ضمن مهرجان مثلا، بلا “قيمة معرضية” حقيقية في زمن الاستنساخ الفائق للآلي.

(٣) في فرنسا ما بعد الكومونة نُبذ مصورون فرنسيون شبان من المؤسسة لأن ما أنتجوه كان بوصف ناقد معاصر “جريمة” في حق الفن (“الشكل”) والأساتذة، لكن أحدا لم يمنعهم من لم الفلوس وتأجير ستوديو وتنظيم ٨ معارض لعقد ونيّف قبل أن ينفرط عقدهم لأسباب تتعلق بالتطور لا التضييق، ولا من الحصول على مقابل (عيني، من دهانات ألوان وقماش لوحات) من شخص وحيد (أب كما كنوه) قبل لوحاتهم ليحاول بيعها. هذه فرنسا المنتصرة إن لم يكن على پروسيا فعلى سلسلة أجيال من الثورات الكبرى استولى آخرها على العاصمة لشهرين، وسيصبح هؤلاء الفنانون المعدمون أساتذة المستقبل غير البعيد (و”الفنانين الرسميين” فيه—غوغان، متنبئا ومتخوفا: مانيه، مونيه، رينوار، …).

(٤) في مصر الآن ليست مصر هي مصر ما بعد ٦٧ المعترفة بهزيمة الحكم العسكري كشرط للتنمية، ولا ما بعد ٣٠ يونيو المطالَبة كدولة من ثورييها الجدد بأن تحارب مرة أخرى (في الداخل هذه المرة، مع استبعاد صوت واحد فقط من المعركة). في مصر تنمو أوهام العظمة الحاكمة الخائفة بجنون ونزعتها للقضاء على كل تهديد محتمل والانتقام من كل تهديد سابق لم ينضم إلى قائمة الأصدقاء، تنمو في فراغ آخذ في أن يصبح كاملا يُسحب منه تباعا كل الهواء والمعنى ولا تحسب القوة التدميرية الصرفة حسابا لغد تجد فيه ما تأكله هي والمؤمنون بها وتنمو كشر ضروري يمت بصلة إلى الحياة الذكية. “وجعانين ميتين”.

الرقص حول الموضوع: تعليق على حملة «سياسة ثقافية لكل المصريين»

tumblr_mcmewzc8qo1rxnpyko1_500

هناك شيء محير بخصوص هذا الملصق. فلماذا وبأي منطق في الدنيا تتضامن راقصة مع حملة لحرية التعبير بأن تعلن عن حقها في … الاستماع إلى الموسيقى؟

هذا الملصق هو واحد من سلسلة ملصقات تؤكد على الحقوق المنصوص عليها في المادة 27 من «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، ضمن حملة أطلقتها «المجموعة المصرية للسياسات الثقافية»، في المورد الثقافي. وصاحبة الصورة في الملصق هي كريمة منصور، الراقصة المعاصرة.

ويصور ملصق آخر، أدناه، قبائليين مصريين من البجا (البشارية) يؤدون رقصتهم رقصة الوثب بالسيف. ومهما يكن من فحولة الرقصة، يغفل النص، مرة أخرى، ذكر الرقص.

وهذا ما يفعله أيضا البيان التأسيسي، الذي يُعدِّد أنواع التراث المصري المعماري والبصري والموسيقي واللغوي إلى جانب تقاليد الحياة الاجتماعية. والغياب الواضح هنا للفنون الأدائية يشمل المسرح أيضا، لكن أحد الملصقات، ونصه “من حقي أمثل”، يعوض غيابه جزئيا. حتى مصطلح جامع مثل “الفنون الأدائية” أصبح محكوما عليه من قبل المدافعين عن الحقوق الثقافية في مصر في الحقبة الثورية باعتباره خلافيا أكثر من اللازم.

ولكن مهلا، على الأقل لدينا راقصة متنكرة في هيئة مستمعة قلقة، ومحاربون غابرون يطمئنوننا إلى كيف يمكن لهذا الفعل المسكوت عنه أن يكون رجوليا، وعلى طول الخط لدينا أناس يرقصون … حول الموضوع.

wpid-sakafa-lkol-elmasreen-500x333.jpg.jpeg


تحديث:

تعقيب من كريمة منصور على تويتر مفاده أن الأمر لا يتعلق بها وإنما بكل أشكال الفنون وحرية التعبير من خلالها، وأن الرقصات التي تصورها الملصقات كالتنورة والتحطيب رقصات نمطية ومألوفة لتقريب الفكرة. (وهذا على اعتبار أن منظر بنت أو امرأة ترقص ليس نمطيا أو مألوفا في مصر).


تحديث 2:

“من حقي أرقص” أخيرا. ربما يكون هو المشار إليه في رد كريمة منصور بما أنه يصور راقص تنورة. لا يوجد على البطاقة البريدية ما يثبت تاريخ طباعتها. ويظل الراقصون بالطبع رجالا في رقصات تقليدية (دينية هذه المرة).

Screen Shot 2018-01-03 at 1.18.50 AM

 

حرية التعبير للكبار تبدأ بحرية الخيال للصغار

“‘سيسي ليس اسما،` قال السيد جرادجرايند، “لا تسمي نفسك سيسي. قولي إن اسمك سيسيليا.`” (أوقات عصيبة، تشارلز ديكنز)

متى أبلغ أحد عن رقابة فإنه إنما يعني الرقابة القابلة للرصد، قمة جبل الجليد الذي كتلته الأساسية هي الرقابة المستترة، وتشمل الرقابة الذاتية. وزد على ذلك أننا نحن المسافرون دائما ما نفقد رؤية المحيط: التعليم–الحرب الشاملة التي تُشن علينا قبل ما يسمى سنوات التكوين بوقت طويل.

يمكن بشيء من التبسيط النظر إلى كل معركة خاصة بحرية التعبير على أنها مواجهة بين أولئك الذين نجوا بشكل ما من النظام التعليمي وأولئك الذين لم ينجوا. وهذه القضية النخبوية بصورة متأصلة مكتوب عليها الفشل، وليس سببا هينا وضع النخبة كأقلية، علما بأن هذه ليست النخبة التي تتركز في يدها السلطات الحاكمة للمجتمع، والتي تحبذ مصالحها العليا مثل هذا النظام.

وليست هناك حكمة في أن نتوقع مناصرة الجماهير للحرية الفكرية وهم، قبل التلاعب بهم بالإعلام وبالأيديولوجيا السائدة بوقت طويل، مجردون أصلا من ذات الحرية المطلوبة لتعلم تكوين الرأي المستقل وإطلاق العنان للخيال. وفي بلاد متخلفة كمصر، يشيع النظر إلى حرية الرأي والتعبير كمطلب فئوي لا يُعني إلا الأفنديات، الغرباء المغتربين–منفصل عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

ولكن ميل أولئك الأفنديات (الحقوقيين، الكتاب التقدميين، إلخ) إلى وضع كل رهاناتهم على مثل هذه المطالب الأساسية ولكن غير الجذرية، إن جاز التعبير، بالحرية الأكاديمية (على مستوى الجامعة) وحرية الصحافة والحقوق الرقمية، يزيد الأمر سوءا بجعل القضية في واقع الأمر تحصيل حاصل، كأن هناك رأي (حر) أو فكر (مستقل) أصلا وكل المطلوب، كل ما هو مهدد، هو فرصة التعبير عنهما.

وهي نظرة شخص جاء متأخرا من شأنه على النحو نفسه االدفاع عن الحرية الجنسية لكائنات تعسة تم إخصاؤها وختانها ختانا جائرا في وقت مبكر وأفلت منهم من أفلت.

(في الصورة: فصل دراسي للبنات في بريطانيا الڤكتورية)

[ هذه تتمة لجزء مبتور من مداخلة في ندوة أقامتها الجامعة الأمريكية حول حرية التعبير لمناسبة إطلاق موقع freespeechdebate.com شارك فيها القائم عليه. وكانت المداخلة بشكل أساسي عن دور النخبة المصرية والجامعة الأمريكية بالذات في تأخير قضية حرية التعبير بسبب ازدواجيتهما.]