أجسادنا، ومؤسساتنا، والفكر والتعبير، و”المسكوت عنه”
١٤ أبريل/نيسان ١٨٣٨–يكتب كيركغارد في يومياته: “إن الناس قلّما يستخدمون، إن فعلوا، الحرية التي لديهم، حرية الفكر على سبيل المثال؛ ويطالبون بحرية التعبير عوضا عنها.”
وهذا تلخيص بليغ لما كنت أحاول التفكير فيه (والتعبير عنه) في تدوينتي الأولى:
متى أبلغ أحد عن رقابة فإنه إنما يعني الرقابة القابلة للرصد، قمة جبل الجليد الذي كتلته الأساسية هي الرقابة المستترة، وتشمل الرقابة الذاتية. وزد على ذلك أننا نحن المسافرون دائما ما نفقد رؤية المحيط: التعليم–الحرب الشاملة التي تُشن علينا قبل ما يسمى سنوات التكوين بوقت طويل. يمكن بشيء من التبسيط النظر إلى كل معركة خاصة بحرية التعبير على أنها مواجهة بين أولئك الذين نجوا بشكل ما من النظام التعليمي وأولئك الذين لم ينجوا. وهذه القضية النخبوية بصورة متأصلة مكتوب عليها الفشل، وليس سببا هينا وضع النخبة كأقلية، علما بأن هذه ليست النخبة التي تتركز في يدها السلطات الحاكمة للمجتمع، والتي تحبذ مصالحها العليا مثل هذا النظام. وليست هناك حكمة في أن نتوقع مناصرة الجماهير للحرية الفكرية وهم، قبل التلاعب بهم بالإعلام وبالأيديولوجيا السائدة بوقت طويل، مجردون أصلا من ذات الحرية المطلوبة لتعلم تكوين الرأي المستقل وإطلاق العنان للخيال. وفي بلاد متخلفة كمصر، يشيع النظر إلى حرية الرأي والتعبير كمطلب فئوي لا يُعني إلا الأفنديات، الغرباء المغتربين–منفصل عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ولكن ميل أولئك الأفنديات (الحقوقيين، الكتاب التقدميين، إلخ) إلى وضع كل رهاناتهم على مثل هذه المطالب الأساسية ولكن غير الجذرية، إن جاز التعبير، بالحرية الأكاديمية (على مستوى الجامعة) وحرية الصحافة والحقوق الرقمية، يزيد الأمر سوءا بجعل القضية في واقع الأمر تحصيل حاصل، كأن هناك رأي (حر) أو فكر (مستقل) أصلا وكل المطلوب، كل ما هو مهدد، هو فرصة التعبير عنهما. وهي نظرة شخص جاء متأخرا من شأنه على النحو نفسه االدفاع عن الحرية الجنسية لكائنات تعسة تم إخصاؤها وختانها ختانا جائرا في وقت مبكر وأفلت منهم من أفلت.
وخلال هذه السنوات الثماني، من سنوات الثورة إلى سنوات هزيمتها، كنت قد عدت إلى الكتابة بعد انقطاع سنوات، بما في ذلك الكتابة التي لا نلاحظ أو نعترف أنها كتابة، على فيسبوك مثلا. (كما صرت أشياء أخرى إلى جانب ما كنته في حياتي الفقيرة السابقة، كمجرد مترجم وحيد منعزل وموظف، بعيد عن المشاريع الجماعية القريبة إلى روحي وعقلي.)
كان هناك اختلاف في وقت ما حول وصف مدوني تمبلر وسواهم (كل مستخدم غير صامت على أي منبر أو وسيط اجتماعي في الحقيقة) بأنهم كيوريتورز (ناسقين، كما أحب أن أترجم الكلمة)، إلى حد دفع بعض الناسقين ’الحقيقيين‘، المحترفين، بالتوقف، احتجاجا، عن استخدام الكلمة في وصف أنفسهم. وفي هجومه الغاضب والعميق على فيسبوك وثقافته وثقافة حواره ومستخدميه، يفرّق جون رتش بين من يسميهم قراء ومن يسميهم كتّابًا، ويعتبر أن “قضاة محكمة الفيسبوك القساة والجهلة” هؤلاء هم جميعا من القراء، أي، بمفهومه للقراءة، مستهلكين غير مفكرين، وناقلين للأفكار، وتابعين. للتابعين تابعون، ورتش لا يقصر توصيفه على الجماهير ولا على الإنترنت: “كارل ماركس وفردريك نيتشه كاتبان، أما فلاديمير إليتش لينين وأدولف هتلر فهما قارئان”.
يعتقد أندرو ميرفي، وهو على حق، أننا أصبحنا الآن كلنا بلا استثناء ناشرين، ومن باب أولى القول بأننا صرنا كلنا كتّابًا، ليس بمفهوم رتش وإنما بالمعنى المباشر والبسيط، ولا حاجة مرضاة للناسقين والكتاب المحترفين الاستعاضة عن كلمة كتاب بكلمة كتبة. كلنا كتّاب إذن وكلنا ناشرون. أخيرا! لكن المعضلة والمفارقة الكبرى الساخرة أن كل هذا لا يؤدي إلى النتيجة المنطقية أو المنتظرة، إلى أعلى درجات حرية الفكر والتعبير.
فيبدو أن أحدا اليوم في الحقيقة لا يستطيع الكلام، في أي مكان في العالم. وتتفاوت قسوة الحدود بالطبع لكنها تصل في بلد كمصر إلى أردأ مشهد ممكن، ودونما الحاجة إلى النظام الدكتاتوري الرهيب، إن لم يكن بالتعاون معه مباشرة أو دون قصد. ليست هناك بالضرورة رقابة ولا مصادرة محتملة للوحة مفاتيح أو لحساب المستخدم على الشبكة أو عقوبة رسمية. هناك وحش آخر من نوع جديد بملايين الرؤوس يمارس ضغطا لا حدود له لكي يتخذ الفرد أو تتخذ الجماعة أو المؤسسة الموقف ’الصحيح‘، الصحيح تماما، وينتقي ألفاظه بمصفاة محدّثة باستمرار عن طريق تغذيتها بأدق المصطلحات المنقحة والصياغات والبروتوكولات المضبوطة، مع ضرورة النأي باستمرار عن كل من يخرج عن الصراط المستقيم وعن طوع هذا المعسكر أو ذاك، في سياق اقتتال ضارٍ وتقلّب مدوّخ، إن لم يكن للتيارات والتحالفات في البيئات الأكثر تطورا، فللشلل والدوائر ومجموعات فيسبوك وقوائم الأصدقاء.
لكن الجانب المذهل في المفارقة ليس “كيف حدث ذلك وقد صرنا كلنا كتّابا وصارت لدينا كل هذه الأدوات الخاصة بالنشر الذاتي والتعبير والرأي والسجال والاختلاف والتأثير والتغيير؟” فهناك اليوم قوة كبرى صاعدة تتمثل في أجيال وثقافة تقف بحسم غير مسبوق لكل الرجعيات، وليس فقط الرجعيات الشهيرة والمسماة، كالعنصرية والذكورية والطبقية. هناك ضيق هائل متصاعد بكل هذا الوسَخ التاريخي ورغبة شرسة في الخلاص منه. لكن أسوأ ما في الأمر فيما يبدو ليس تعجل الخلاص، وإنما طائفة من الأوهام والادعاءات حول ماهية هذه الرجعية وماهية الخلاص الذي يزعمه هذا المعسكر أو ذاك في فسطاط التغيير والتقدم والتحرر. وفسطاط الرجعية السلطوية (إن كان هناك حقا فرز ممكن بهذا التمييز الواضح والاتساق) يبدو أكثر انسجاما وتوافقا واتحادا و، بالطبع، سلطة وتأثيرا في مجال الحياة الفعلية. ومن المعقول أن نحاجج بأن اقتتال معسكراتنا نحن لا بأس به، فنحن و”دوائرنا” في نهاية المطاف هم أولئك الأحرار، المستقلين، المختلفين، الأحياء بكل ما تعني الحياة من حيوية وتغير وتطور وتساؤل وصراع فكري وتجديد وتجريب ومراجعة نقدية.
أمام كل النكبة داخل النكبة التي يمر بها المجتمع المدني في مصر، متصلا بمجتمع الثقافة المسماة بالمستقلة والبديلة، ودوائر الحقوقيين والنشطاء اليسارية أو ذات الطابع اليساري، لا أملك إلا أن أرى ليس فقط مشاكل الحرية التي قلما تُطرق (لا مشاكلها المألوفة بسبب فجاجة القمع) وإنما بالتحديد مشكلة حرية الفكر وحرية التعبير، وهما اسمان لحريتين دائما ما يأتيان في نفَس واحد وكأنهما شيء واحد، وتكمن وراء هذا أوهام وضلالات عتيدة ومدمرة على المدى الأبعد حول ماهية هذه الحريات وأين نحن منها ولماذا وكيف نحصل عليها.
إن حرية التعبير ليست هي تلك التي صادرتها الحكومات. ليست هي ما تمارسه المواقع المحجوبة. ليست كل ما هو خارج نطاق خطاب الكراهية، ذلك الشيء المطاط والفضفاض والغامض والمحاط بالنفاق والكذب والجهل والانتهازية. ليست ما قرر الرجل الأبيض والمرأة البيضاء أنه حرية التعبير، ولا ما قرره التابع التنويري والتابع النيوليبرالي، ولا ما قررته التابعة الفلسطينية الكويرية الحاصلة على أكثر من دكتوراه في دراسات ما بعد الاستعمار ووضعت لضبطه ما أسمته سياسات تحريرية تشمل ضرورة أن يكون الكلام واضحا ومفهوما ومنتهيا إلى خلاصة وموقف وشعارات وهتافات يمكن اقتباسها وتداولها والإعجاب ببلاغتها واختزالها.
حرية التعبير هي حرية الحديث إلى أنفسنا، بصوت أو دون صوت؛ والحديث، جانبا، إلى من نحب.
حرية التعبير شيء لم يوجد قط، ولم يُستكشف إلا في حدود ضيقة ضيقا مخزيا، وهو خزي يتناسب طرديا مع حجم الادعاءات التي تصرخ بهذه الحرية وتنتصر لها وتدافع عنها. ويبدأ السقوط الأخلاقي والفكري هنا بمجرد أن يبدأ الحديث عن ’نسبية‘ و’حدود‘ هذه الحرية، ولكن أيضا من التنظير الأذكى بكثير حول ’جدليتها‘ كمجرد تهرب كبير وخبيث من العقبة الأفدح: الانفصال الشرطي والبنيوي والمطبَّع تماما بين أفضل نتاجات الفكر النقدي وأكثرها خطرا على الرأسمالية والأبوية والسلطوية والعسكرية وبين ممارسة هذا الفكر على أوسع نطاق ممكن، على الأرض، بين الآخرين ومعهم؛ أن نعيش ونختبر ما نقوله ونفكر فيه ومن ثم نعرفه ونعرف سواه ونحاول (بحرية، بكل حرية!) أن نتلعثم للتعبير عما نراه الآن، باللغة اللفظية المليئة بالعيوب والنقائص والفجوات والكوارث، التعبير عن أنفسنا أولا ثم التواصل مع غيرنا: حرية الفكر أولا، نعم، ولكن، وبالاعتذار من كيركغارد: حرية عيش الفكرة. وهذا جوهر أزمة المعارض، الراديكالي إلى هذا الحد أو ذاك، أو الشخص الغريب عموما، في المجتمع المحافظ المتخلف، المنتصر عليه انتصارا لا يستوعبه المهزوم قط.
وجوهر مهمة المهزومين اليوم، ورهان نجاتهم إن لم يكن انتصارهم النهائي (وهو انتصار تستبعده الأعماق العدمية المظلمة لدى المهزومين ومن هنا تأتي مأساويتهم) هو أن يفكر كل منهم، إن تعذر أن يفكروا حقا معا، في كل شيء، بدءا من تلك الأشياء الجوهرية المسماة ذاتًا وهوية.
أي أن نكون، وننقضّ على كل ما يمنعنا أن نكون، وأن نتحلى بالنزاهة الكافية للاعتراف بما يمنعنا، بينما نحاول، أو نرتاح.
تحرريون في خدمة السلطوية

العقبة الأفدح إذن أمام حرية التعبير هي الانفصال بينها وبين الفعل أو الخبرة. لكن هذه الفكرة في الواقع ناقصة جدا دون اعتبار جانب آخر.
يستخدم التحرريون بلا شك نتاجهم ونتاج بعضهم البعض، ولكن، وحصرا، في إنتاج المزيد من التنظير. أما من يفعل أشياء حقيقية بالتفكير النقدي والنظرية فهم أعداؤها: أهل السلطة المستهدف نظامهم بهذا الفكر الهدام والتحريضي، وممولو هذا الفكر الحر في الوقت نفسه.
خشي حنا بطاطو من استخدام الاحتلال الأمريكي دراساته حول العراق، لكن تشومسكي أنكر دائما استخدام العسكرية الأمريكية أبحاثه اللغوية في تطوير أسلحتها وأنظمتها الحربية، وكشف إيال وايزمان حب الجيش الإسرائيلي لدولوز وغاتاري وديبور بعد الانتفاضة الثانية، على الأخص أفكارهم حول الحيز والموطنة ومحاربة العدو بسلاحه في غرض مغاير.
في عالمنا الناطق بالعربية، ينصب نقدنا للمثقف المعارض على علاقته المباشرة بالسلطة، مقابل ابتعاده عن الناس، كمثقف غير عضوي. ومن هنا الصورة الاستعارية الشهيرة “حظيرة المثقفين”. لكن حظيرة المثقفين في الواقع أوسع وأقل محلية بكثير من تلك الكيانات التي ترعرعت في ظل عبد الناصر ومبارك. حظيرة المثقفين الأغرب والأهم هي تلك التي داخل أسوارها (بما يشمل أسوار الترجمة وأسوار الجايستور وغيرها) يمارس ويطور الأكاديميون والمفكرون من الوزن الثقيل أعتى وأرقى أنواع الفهم والتفكيك والخيال والهجوم المباشر والشامل على حكوماتهم وأنظمتهم بل وأسس ديموقراطيتهم الزائفة، ويتحول كل ذلك بالأساس إلى علف لذكاء التحرريين ووقود لسلاح السلطويين.
يبدو لي أن كل ما نفعله بالثقافة هو استهلاكها، أما هم فيستخدمونها حقا، وضدنا.
ببطء (قاتل) لكن بثقة
نحن إذن نستهلك الثقافة المعارضة ضدهم أما هم فيستخدمونها حقا، وضدنا. ننتجها ونستهلكها ونعيد إنتاجها، وهم يدعمون هذا الإنتاج وفق حاجتهم، ويضعونه موضع التطبيق الفعلي وفق حاجتهم. حاجتهم وحاجة السوق، إحداهما تسبق الأخرى أو رديفة الأخرى.
يطمس هذا الاستنتاج (أو هذا الوعي والشعور الطاغي) الجانب غير المرئي في المشهد المعاصر، وربما كل مشهد سابق. فما أسميته اختصارا ثقافة معارضة هو عند رايمند وليمز نوع واحد من أنواع الثقافة (أي الكلمة التي اعتبرها في قاموسه الشهير إحدى أعقد الكلمات في الإنجليزية). هناك ثقافة معارضة أو مخالفة، وثقافة بديلة، وتنقسمان بدورهما إلى ثقافة بازغة وثقافة مترسبة. هذه الثقافات المناوئة للثقافة السائدة والمهيمنة، أو الخارجة أو المستقلة عنها إلى هذا الحد أو ذاك، تُترك في سلام إلى حين وفق وليمز، إلى أن تمثل تهديدا أو مشروعا يمكن الاستثمار فيه، فيقضى عليها أو تهمش أو، وهو الأغلب في شروط التقدم الصناعي والديموقراطي اللبرالي، تحتوى وتستوعب. يصف البعض ذلك بالتدجين، لكن هذا الوصف يغفل أيضا كيف أن الثقافة السائدة والمهيمنة كما تنزع القوة عما هو مخالف وبديل أو تبطلها، فإن نسبة غير هينة من هذه القوة تنتقل في الحقيقة إليها هي، وتأخذ شكل مرونة متزايدة باستمرار، وجاذبية ورحابة، وتطورا حميدا وليس بالضرورة إيهاما بهذا التطور والتقدم والتحسن.
وسواء كان ما يحدث هو سرقة المهيمن والسائد للمعارضة والاختلاف (وتحويلهما ضدنا) أو استيعابه واحتواؤه لهما وبالتالي استيعابنا واحتواؤنا نحن، بمعنى الابتلاع ولكن أيضا بمعنى الاحتضان بعد تخفيف خطورتنا إن لم يكن تحييدنا، تكون النتيجة هي لا مرئية الثورة وآثارها الحية في كل ما حولنا ونعيشه؛ كل ما طرأ ويطرأ من تغيير عميق في حقوق البشر ومكاسبهم تغييرا ينقلها من شيء لم يكن يخطر بالأمس في البال، ونتشكك نحن (التحرريون) قبل سادة الهيمنة (السلطويين) في تحققه كثمرة للنضال، إلى شيء مسلّم به وينظر إليه باعتباره من ثوابت الحياة، والحضارة، والإنسانية، إلخ. فبدون النضالات والمقاومات والمساهمات العظيمة التي لا تحصى في نقد وهدم وتغيير الأوضاع القائمة وإعادة تخيل العالم بل وإعادة تشكيله جزئيا بناء على هذا التخيل، من المستحيل تصور كيف كنا سنعيش اليوم، برغم كل ما يوهمنا بأن الغد أشبه ما يكون بالبارحة، وأن الطبقات الحاكمة تتصرف وكأن شيئا لم يكن، وأن التخلف (أو الخضوع للسلطوية والهيمنة والتسيُّد) راسخ، وأن التقدم (أو التحرر كما أفضل وصفه، بدلا من استخدام لغة إشارات المرور المضللة هذه) غير حقيقي.
عندما يخاطب ممثل عن جيل جديد من المثقفين أو المتعلمين عموما، في مصر والعالم الناطق بالعربية، ممثلا عن جيل أقدم، بالقول: “صدقني، الأمور تتغير، وستتغير، ولو بعد حين، وعاجلًا أم آجلًا يتبين من كان على الجانب الصحيح والنظيف من التاريخ،” من أين يأتي بهذه الثقة؟ قد يبدو هذا (وهو نوع مشروع من التلقي) بلاغة خطابية وإنشائية أولا وأخيرا، تمنيات، حماسات، محاولة للتأثير والإقناع لكي يرفع الطرف الآخر يده عن هذه أو تلك من الفئات المظلومة. لكن كاتب تلك السطور لا يشك فيما يقوله. في يوم ما، وكما تغير الكثير في واقع المصريين في عقود، سيكون مستوى لا نحلم به اليوم من التحرر والاختلاف الجنسي والغرابة الجنسية (وليس فقط للمثليين والمثليات والعابرين والعابرات) هو واقع المصريين الجديد المألوف إلى حد كبير حتى لو ظل البعض يستهجنه ويحاربه. كثير من أحلام وفانتازيات اليوم الأخرى ستكون واقعا عاديا، يفسح المجال لأحلام وفانتازيات جديدة. ولندع كل حديث الجحيم الأرضي الآن جانبا.
غير أن المشكلة التي لا تسمح بأن يتحول كل هذا التحرر المستمر إلى خلاص حقيقي وفردوس أرضي ليس فقط اللامرئية، ولا الاستيعاب والاحتواء والتهميش والقضاء على المقاومة والاختلاف، ولا الفوضى والتعقيد والتناقض، إنها هذا البطء القاتل.