في قصيدته المعبأة بالمجاز، حتى بمقاييس الشعر عموما، والشعر العربي خصوصا، إلى حد أن بيتا في قصيدته قد يكون الأكثر صورا على الإطلاق، يقول الوأواء الدمشقي (وقيل يزيد بن معاوية):
قالت لِطيف خيالٍ زارني ومضى
بالله صفه ولا تُنقص ولا تَزِدِ
فقال خلّفتُه لو مات من ظمأٍ
وقلتِ قف عن ورود الماء لم يَرِدِ
هذا الشعر الآن يتلبسه فجأة معنى جديد، شخصي، لا يمت بصلة إلى رومانسيته العذرية واستعاريته اللتين كانتا دائما كثيرتين على هضمي: فجأة أصبح أفضل الأقوال تعبيرا عن كيف يعمل جسدي، رغبتي ذاتها، بالتعاون مع أخلاقي ربما. لو مِتُّ من ظمأ، إلى مائك أو إلى الماء عموما، وإذا لم يكن في المتناول سوى الأول، فاقتربت طالبا إياه، وقلتِ “قف!”، لارتددت من فوري ومِتُّ من ظمأ. لكن من يقول هذا؟ طيف خيال. من سيسأله؟ أنت لن تسألينه. ستسألين خيالا آخر غير الذي زارنا معا أو زار كلا منا على حدة. وأين هو عموما خارج القصائد؟ هل لطيف خيال أن يتكلم؟ وماذا قلت أنت؟ قف؟ لا، بل قف أضعف كثيرا من ذلك على السمع وأكثر توغلا في المجاز والظلال والبين بين. لكنه وقف، ليس فقط عن ورود الماء، وإنما عن طلبه. وليس طيف خيال هو من يقول، وإنما الميت ظمأ. وما حاجتنا اليوم إلى طيف خيال ومجاز وظلال وبين بين ولدينا اليوم آلات لتسجيل كل ما يدور بيننا وحول أشرطتنا الحدودية وروبوتات وصيغ تفاهم روبوتية؟ (لا تُنقِص ولا تزيد؟) وفيم كل هذا التوزيع للأدوار بين عيون ماء وطالبي ماء وكل حروب الماء هذه؟ فيم البحث عن قصة؟ ولماذا اعتقدتُ أن غاية الشرف هي الموت ظمأ؟ لعل غاية الشرف هي الموت ظمأ دون “لو” ودون “قف” ودون ورود ودون طلب. ومن يرد عليّ الآن شرفي؟
***
لا يهم. فعلينا ألا ننسى الخبر الأهم في كل هذا، وألا تنسينا إياه بلاغة الشاعر: كنت بالأمس تتكلمين، وكان طيف الخيال يتكلم، فقط عندما يتكلم الشاعر. أي: كان الشاعر فقط هو من يتكلم. (فقط؟) اليوم تتكلمين، وتنقلين أنت عن طيف الخيال. ولعل ما على الشاعر الوقوف عنه ليس الطلب والورود فحسب، وإنما الكلام أيضا. فهنيئا لنا جميعا—حتى لو كنا نتعجل التهنئة أثناء توزيع جديد دون العدالة والسلام: لعل ماء الغد – إن وُجِد – أن يكون أطيب وأعدل وأشد إرواءً.
***
كنت أغفر لو أنني مِتُّ
ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ
لم أكن غازيًا
لم أكن أتسلل قرب مضاربهم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
أرض بستانِهم لم أطأ
لم يصح قاتلي بي: “انتبه”!
كان يمشي معي..ثم صافحني..ثم سار قليلًا
ولكنه في الغصون اختبأ!
فجأةً: ثقبتني قشعريرة بين ضلعين
واهتز قلبي كفقاعة وانفثأ
«لا تصالح»، أمل دنقل
***
قال رجل آخر، سيد آخر، بل سيد الرجال:
“إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد.”
كان هشام بوزيد يتجول بنا فيما يمكن وصفه بالظَّهير العمراني والطبيعي لطنجة، أو امتدادها المهمَل سياحيا وثقافيا لحساب المدينة الواجهة المطلة على البحر وفي القلب منها المدينة القديمة، وكانت الجولة تدعو حرفيا إلى أن نعطي ظهرنا للبحر. في إحدى وقفات موكب طاكسياتنا، شرح بوزيد التعاون بين الفنانين والباحثين عبر أتيليه قيسارية وبين سكان هذه العشوائيات المحيطة بنا والمتاخمة لخلاء من وراء منطقة صناعية، غير بعيدٍ عن منطقة سكانية شرعية لشرائح من الطبقات المتوسطة، وعلى مرأى من توربينات رياح فوق تلال مخضرّة.
من ضمن ما قاله بوزيد – عن سياسيّات هذا التعاون ومغزاه والحياة الاجتماعية التعاونية داخل الحي وتاريخه وكيف بدأه السكان ووسعوه – تلخيص للوضع القانوني والأمر الواقع الذي يفرضه السكان بعد سنوات طويلة من الاعتماد التام على الذات—وربما التهديد في ظل عدم الاعتراف من الدولة أو الاتهام بالتعدي. وذكر الحالة الغريبة لقانون مفاده جواز البناء غير المرخص إن تم ليلا. (ويبدو أن هناك قانونا مشابها في البلد التي جئت منها: مصر.)
أثارت انتباهي هذه العلاقة المفاجئة بين كلمة عشوائيات – ذات الدلالات السلبية – والجذر عشي. ومنه كلمتا عشاء بكسر العين ثم فتحها، والعمى الليلي الذي عرف به مثلا الأعشى شاعر العرب الكبير، وتعبير “خبط عشواء” السلبي كذلك بمعنى فعل الشيء كيفما اتفق بفوضوية ودون نظر أو توجيه، كما قد تفعل الإبل مثلا (والمستعار فعلُها في بيت زهير الشهير، وتخريجته الإسلامية أن المراد عدالة الموت—عدالةٌ ما).
“أمرٌ دُبِّر بِلَيْلٍ”؟ مؤامرة الشعب الناجحة على حكامه؟
لعل بإمكاننا الآن تطوير هذا المعنى الجديد والحميد لكلمة عشوائيات: أجزاء من المدينة يبنيها سكانها ليلا على قدر إمكاناتهم البسيطة، خلسة، أي في غفلة من البيروقراطية التي تحيا بالنهار؛ ما يستدعي أيضا الجملة القرآنية التي تلفت انتباهنا إلى النقلة المحتملة من العين إلى الغين في كلمة غشي ومنها “أُغشي عليه” وغشاء أي حجاب أو غطاء رقيق: “فأغشيناهم فهم لا يبصرون”.
لا بل العشوائيات هي كل ما نعمله ونعيشه ونتخيله خارج الدولة، من ورائها، مستغلين ما تبقى من نقاطها العمياء. ولأننا أيضا ليس بيدنا الآن لكي نحيا، أي نحيا خارج النظام، سوى أن نَخْبِط خَبْط عشواء.
في المستوى الأول، يهدف كل اعتصام في ميدان عام إلى خلق أزمة والحفاظ عليها. وجود جماهير في الشارع ليل نهار (يُفترض أنه) يقطع استمرارية الحياة العادية، وقد يشمل ذلك حركة المرور كما في ميدان التحرير، أو وقف العمل كما في مصنع أو مصانع. كما أنه يظل عملية استيلاء، سواء أدار المعتصمون المصنع أو سيروا المرور أم لا، ومهما حاولوا إنكار معنى الاستيلاء الذي ينطوي عليه مرادف كلمة اعتصام الذي يتجنبونه: احتلال.
بلجوئها إلى مقار قوات “الشعب” المسلحة تسعى حركة إعلان الحرية والتغيير السودانية إلى التأثير على توتر في الجيش تكسب من خلاله (البعض في) سلك الضباط، ضباط الصف، الرتب المتوسطة، ممن لم يُعرف عنهم انتماء للنظام أو تورط في فساده وانتهاكاته. كما تؤكد على سلميتها كسلاح أساسي: الاستجارة من العنف بمحتكر العنف، بل مطالبته بأن يحتكره أكثر.
أكثر من المصنع – والجامعة لاحقا، بعد انتشار التعليم العالي في الطبقات المتوسطة فما تحتها، وهو ما تجلى في حقبة ١٩٦٨، المستمرة إلى الآن وفقا للبعض – يُعد الاعتصام بيئة تركيز نضالي، حيث يلتقي أفراد من الطبقات المَسودة، المحكومة، لأوقات طويلة، في نشاط مشترك ومتكرر، فينمون الصلات والروابط، ويعون بظروفهم المشتركة، ومواطن قوتهم وقدراتهم المطلبية والصراعية، ويتبادلون الخبرة، ويتنظمون. (الاستعارة الكلاسيكية هنا هي أغورا، وهي رفاهية كسبها مواطنو أثينا “الأحرار” بفضل العبيد. لابد من بقاء الاعتصام كمسألة حياة أو موت لأنه ليس أغورا، وما من أغورا، نعود إليها.)
من هنا تأتي الطبيعة المتناقضة للاعتصام، إذ من ناحية يشتد عوده وتتفجر إمكاناته ما دام وجوده، ومن ناحية فإن حالة الانتظار التي تَسِمُه مع التأكيد على أهمية النفس الطويل، في حرب الأعصاب هذه، تخاطر بإحداث تململ سريع، على الأخص وأن الاعتصام لا يوقف حقا الحياة العادية خارجه، وإليه يعاود أغلب المعتصمين أنفسهم الرجوع من العمل والبيت إذ لا يريد أحد خسارة وظيفته، ولا وضع رهان شخصي كامل ومطلق على نجاح الثورة.
بعد يوم الجمل ٢ فبراير ٢٠١١ لم يَعُد اعتصام التحرير أبدا كما كان. انتهت طوباويته الشهيرة قصيرة العمر ولم يعد أحد فوق الشبهات بعد انتشار شائعات تسلل أفراد لإثارة البلبلة وتفرقة الصفوف، وصودر كل حوار إشكالي أو تساؤل حساس أو إبداء أي تشكك علني أو قلق. كان المطلوب فقط هو رفع الروح المعنوية والصمود إلى ما شاء الله. تكرر الأمر في اعتصامات لاحقة، ففي اعتصام مجلس الوزراء نحو نهاية العام وفي اعتصام يوليو من قبله كان من غير المقبول للبعض طرح مسألة فض الاعتصام للنقاش في اجتماع عام، ما كان يعني الإسراع بتخريبه وتقويضه.
في مقابل الإسكات من الداخل كان أي منشور يوزَّع في الميدان يقابَل بلهفة واحترام؛ فحالة الانتظار تشمل أي كلمة أو مبادرة قيادة “من الخارج”، كلمة ينبع احترامها أيضا من هالة الكلمة المكتوبة والمطبوعة مع عدم تشخصُن/تجسًّد المخاطِب في مجرد زميل اعتصام مثلا. وتُختصر الديموقراطية والحاجة إلى الحوار في منصة وجمهور. هذا مظهر واحد لملمح بارز آخر في تناقضات الاعتصام كوسيلة لإملاء الإرادة الجماعية وكحشد ينتظر الأوامر والقرارات. (كان “الخارج” الوحيد المشروع كمصدر للقرار في الاعتصامات التالية ليناير-فبراير هو السماء حرفيا: الشهداء، وأهاليهم بالتبعية كمتحدث عنهم.)
مِثل اعتصام التحرير يصبح اعتصام الخرطوم موضوعا لصورة ذاتية يعاد إنتاجها على مدار اليوم في مشاهد وأيقونات وقصص بصرية ورمزية، أكثر منها – في الأغلب، وفي حدود ما يمكن الحكم به من بعيد – تجمعات ومواقف مؤقتة ثورية ترهص بالديموقراطية الجذرية والإبداع الجماعي والتعايش الحقيقي، فعلى هذا المستوى هو لا يمثل سوى لمحة خاطفة عن حياة بديلة ممكنة.
التناقض الثالث في أي اعتصام اليوم هو حاجته الماسة هذه لـ”تلفزة الثورة” وما تفعله به هذه “التلفزة” الضرورية. لم يعد السؤال هو هل ستتلفز الثورة، وإنما هل يجب أن تتلفز، أو بمزيد من الاعتدال، كيف تتلفز. وكم كان عبقريا من بيتر واتكنز أن يختار لتجربته السينمائية الفذة في مطلع القرن، عن الإعلام والتاريخ ومسرحة وإعادة تجسيد الصراع، أنجح وأشهر وأهم اعتصام/احتلال في التاريخ، والذي يلخص بدرامية عالية كذلك كيف ولماذا قد يفشل اعتصام/احتلال بسبب التناقض الرابع بين حدود السلمية وحدود العنف: كوميونة باريس.
“هم الإدارة يا ليل
واحنا الحيارى”
—من أغنية لعدوية، “يا ليل يا باشا”، حسن أبو عتمان
مثّل فيسبوك وتويتر فرصة تاريخية لأبناء وبنات الطبقات العليا والوسطى المرتفعة في جنوب العالم ممن اختنقوا بملل طبقتهم—الملل الذي أضفته على العالم طبقتهم في أصلها الشمالي. كان وضعهم الطبقي المميز قد منحهم الرفاهية الكافية للتأمل والتطلع والمقارنة والتوفيق بين تخلف مجتمعهم المحافظ وانفتاح المجتمعات الأقل محافظة. ثم منحتهم الوسائط الجديدة المجال لإشباع فضول التجربة لديهم وتحقيق اللقاءات المستحيلة. كما أراحتهم عوامل مسويّة، أي مساواتية مخادعة، بردم الفجوة دون جلبة، بما سرعان ما سيتبين للعالقين على الناحية الأخرى – إن لم يسقطوا طويلا في الفجوة التي ستنتفتح تحتهم فجأة من جديد – بأنها لم تُردم سوى بخدع لغوية-سينمائية وديكورات.
هذه اللقاءات العابرة تتخذ، في أشدها إيلاما بأثر رجعي، شكل الصداقة أو الحب أو الرفقة السياسية. وإيلامها مركّب: غدر العالم من خلال استقراره؛ كثافة التجربة القصيرة؛ تفاوت القدرة على أخذ القرارات؛ الوعي اللاحق بكل ما كانت الديكورات والخدع قد نجحت في إخفائه.
ولأن أشياء كهذه، مهما يكن، مكلفة، كما أنها تعتمد على عوامل زمنية تقوي إمكانات الفرصة التكنولوجية – كأنْ تقوم ثورة مثلا وتنحسر – فسيهتدي أبناء وبنات الطبقة إلى حل أقدم قليلا وإن بشروطه التكنولوجية الجديدة أيضا:
لقد ألهم البؤس الاجتماعي المرتاحين ماديا بالرغبة الملحة في أخذ الصور، وهو أرق أشكال الافتراس، من أجل توثيق واقع خفي، أي واقع خفي عنهم هم.
محدقا في واقع الآخرين بفضول، بانفصال شعوري، باحترافية، يشتغل المصور الفوتوغرافي المنتشر في كل مكان كما لو كان ذلك النشاط يتجاوز المصالح الطبقية، كما لو كان منظوره عموميا. في الحقيقة، تبدأ الفوتوغرافيا في الاستقلال بنجاح بوصفها امتدادا لعين فلانير [متصعلك] الطبقة الوسطى، الذي رسم بودلير خريطة دقيقة لحساسيته. الفوتوغرافي هو … ذواقة للتماهي العاطفي، … . الفلانير… ينجذب إلى… واقع غير رسمي متوار خلف واجهة الحياة البورجوازية “يمسك به” الفوتوغرافي، كما يمسك محقق التحري مجرما.
—“Melancholy Objects”, On Photography, Susan Sontag
تشبع العلاقات واللقاءات العابرة مع غير أبناء الطبقة احتياجات شتى لدى أبنائها: المغامرة (المستحقة بفضل التميز)؛ تخفيف الضيق بالغربة، على الأخص مجتمِعا بإحساس ما بالذنب يشوشر على الاستحقاق ويعكر صفو التميز وتقويه الثورة القصيرة الكثيفة بدورها؛ الشعور الطيب بتجاوز الإحسان إلى الكرم والقوة والتضامن (شعور بأننا من ناحيتنا حاولنا). وتشترط هذه العلاقة السياحية دون إدراك السائح(ة) بالضرورة درجة من الاحتماء، حيث لا يدرك بوجودها مثلا في شقة الآخر الفقيرة أحد، ولا ترى بصحبته إلا في سياقات ملتبسة أو عامة، وتكتمل مثالية هذا الاختفاء عندما يتخذ اللقاء شكل صور فوتوغرافية لهؤلاء الآخرين الأقل حظا بمسافة موضوع السياحة الإنسانية/السياسية، حتى لو عنى هذا النجاح أمانا أكثر/مخاطرة أقل وكثافة أقل، تُحل بوفرة الصور.
الإرهابي
لم يعد ولع الإرهابيين بالصور وهوسهم بإتقانها أمرا جديدا—ربما لم يكن أبدا جديدا بسبب طبيعة الإرهاب حتى لو سبق عصر الصورة بمعناها الحديث. لكن الأشد أصالة لدى الإرهابي هو هوسه بالقصة. نعرف ذلك الشعور الذي يتنزل علينا رويدا بوراثة العالم، وبالتالي امتلاكه نسبيا، ويعذبنا موضعنا القلق وغير المحدد من هذه القصة التي تتكشف أمامنا ببطء ولكلٍّ حسب مداخله إليها. ونعرف أولئك الذين تثبّت انتباههم على قصة بعينها إلى حد الكلام عن دورهم (الوهمي) فيها: كيف عرف(ت) ريا وسكينة مثلا، كيف أنه هو من اختطف الطفلة الأمريكية التي تمثل قضيتها لغزا غير محلول بعد، قبل أن تسخف الواقعية والاحترافية حماسهم فتدفعهم إلى الإنكار أو تفرج عنهم مع توصية بالعرض على طبيب.
يؤمن الإرهابي في الكثير من الأحوال بأمرين متناقضين ولكن منسجمين: حتمية التاريخ وغائيته، وحتمية دوره كذلك (أي حاجة التاريخ إليه). للحماقات الكبرى سحرها الخاص الفائق على الأخص لدى الغاضبين المغبونين عميقي الشعور بالضعة والهوان. فهذا العاجز عن عمل أشد الأفعال بساطة واتخاذ أكثر القرارات تفاهة بسبب قيود النظام السياسي-الاجتماعي يمكنه بتفجير نفسه، أو، وهو الأشد غواية هنا، تنفيذ مذبحة ثم الهناء بأضواء المسرحية، “تغيير” التاريخ. وكما تؤتي الصورة فعلها بمصاحبة سردية (مهما بلغت قوتها وجودتها: تعليق الصورة كأضعف الإيمان—بنيامين، سونتاغ، ماركر) تكتمل فخامة المذبحة مع مانيفستو يصعد بين عشية وضحاها إلى قمة “الأعمال” الأعلى قراءة في دوائر بعينها، ويكتسب احتراما إجباريا بسبب جدية الأمر وموضعا في السردية التي لم يكن البطل-المؤلف الجديد حتى صباح اليوم سوى قارئها المهووس.
هـ. م. س.
في بورصة جلسات النميمة بأنواعها تعلو قيمة بعض القصص على غيرها وتخضع للتكهنات والمضاربات، أو تتوزع الاهتمامات عليها حسب الذوق والرغبة. وبالرغم من أن ترديد كل إشاعة وقيل وقال هو في أحد وجوهه – على الأخص عندما تصاحب ذلك ثقة وتفاصيل وتأكيدات إضافية لإضفاء المرجعية والمشروعية – دعوى امتلاك للقصة ومزاحمة لوضع قدم فيها، فبعض هذه القصص يغري دونا عن غيره بـ”التدخل”، ربما تحديدا لغموض تفاصيله ونقصه وطابعه التفاعلي، كالمؤلفات التي تهدف إلى إشراك القارئ ودراسة الاحتمالات.
في الحياة الحقيقية لا تصبح هذه احتمالات بقدر ما أنها مساحات للفرجة المستمرة؛ مجسمات للتنفيس عن الغضب والانتصار للتحيزات؛ مواد للعب والتشكيل والتعويض عن الحسرة أمام قصص أخرى مغلقة. يطمح البعض بفضل موهبة أو موقع أو جدية أشد في مساهمة مختلفة نوعيا، مضفيا المشروعية والمرجعية بما هو أكثر من ترديد الكلام: يمكنك بالفعل أن تصبح جزءا من “القصة” بأثر رجعي. أنت هنا مؤلف بمعنى أكثر إيجابية ومادية. كما يمكن للروائي أن يدرس جعل كمال وعايدة يلتقيان في الجزء الثالث، يمكنك أن تدبر بالفعل لقاء بينهما في الحياة الحقيقية، لأول مرة منذ سنوات، لم تشهدهما قبلها، لم تعرفهما، لم تكن موجودا، وتستمتع بمراقبة ما يحدث، نتيجة فعلك الخَلقي، بقوتك، بوجودك في زمان ومكان لم تكن فيهما. لقد امتلكت القصة بالفعل حتى قبل ترديد الكلام: عندما اختزلتها بينك وبين نفسك إلى مشاهدها الأخيرة أو طبعاتها الرائجة. كل ما يتلو ذلك هو صيرورة امتلاك القصة، أو بالأحرى نهبها. أنت أيضا «بطل من ورق».
“الثورة”
وهكذا فإلى الحداثة انتميت أم إلى ما بعدها أم إلى ما قبلها، ستنتهي دائما إلى “دخول” القصة، وإلى امتلاكها كرواية واحدة كبرى أو ممزقة نهب كل ريح، راغبا أو مجبورا، بحماس أو – مثل أغلبنا – بدون (أو بالأحرى، بحماس أقل). ربما لا يمكن تصور التاريخ ومجرد الاتصال الاجتماعي دون هذه العملية—فإلغاء القصة أو تأليفها مجددا بقدر ممعن في الخيال النقدي يتطلب شروطا باهظة التكاليف وخارج الشروط الإنتاجية الحالية. ولكن هل يمكن تصور هذا الأمر الأخير نفسه – إذا أسميناه “الثورة” مثلا – كعملية خالية من امتلاك القصة إلى هذا الحد أو ذاك، على هذا النحو أو غيره؟
هل يمكن لمن تنضم إلى قصة مهمة باستخدام وسم موحد يعلن حضورها ودخولها، #أناـأيضا، أن تمتلك القصة الكبرى أيضا بقدر من الإبداع يتخيل القطع حقا مع الفصول والأجزاء السابقة؟
هل يمكن لمن يقضي عمره في المقاومة والتمسك بقصته وثقافته أمام من يسلبونه إياهما (حتى موته يسلبونه إياه) أن يبذل أيضا الجهود لنزع طابع الملكية الخاصة – بكل ما تعنيه من التفاوت الرهيب في القدرة على الاستحواذ وتكريس القصص – عن كل قصة بما في ذلك قصته؟
الرواية الكبرى سجن موحش فسيح إلى حد يوحي بأنه مفتوح (جماعي/جماعاتي)—«منطق الطير» للعطار؟ الروايات المتعددة متاهة جحيمية باذخة (فردية/فردانية)—“حديقة الطرق المتشعبة” لبورخس؟ القصة الكبرى ليست هنا بعد. ويتطلب اكتمالها بما يكفي توفيقا عميقا ومقنعا لعدد وافر من كل شيء وعكسه، كل قصة وأخرى مغايرة ومضادة. إذا كان للانشطار النووي أثر الدمار الشامل، فهو يعطينا فكرة عن الأثر الشامل الآخر لهذا النوع من اتحاد الذرات.
إنه سؤال بلاغي. يبتهج إزاءه الطفل فاغرا فاه الغض للملعقة القطار. يتغذى. يكبر. ولعله يفكر في القطار، وفي ماهية هذا القطار. يربطه بالصوت الآتي كل بضع ساعات من حدود القرية؛ عند محاكاته بالفم الملتصق بغتة بأذن الأم أو الخالة، بالمرح الشرير لطفل، صوت مختزل بشدة وطفولي ليس جهوريا ولا مفزعا حقا كما يراد به، لقطار ليس أكثر من دمية مسلية.
يكبر وبعد قليل يقترن القطار بأشياء أخرى غير مرحة. كما في أغنية عربية لخضر العطار تعلن بعد موال قصير “كرهت صوتك يا قطار / كرهت ساعات الرحيل”. إنه لا يفهم النوبية ولا يصله كل غناء الحلفاويات الثلاث المعروفات بالبلابل، لكي يتأكد القطار كعلامة حميمة على الغربة والتهجير على الجانب الآخر أيضا من الحدود. ولا يصله أبدا صوت قطار حمزة الذي يفككه إلى إيقاعات تتحدث ما يشبه النوبية، فيما صار وفق اسمه العالمي “بطاقة معايدة“.
وبأشياء أقل مرحا: فشريط السكة الحديد طويل بطول البلاد، يصل إلى مصر وإلى البحر ويمر بكل الصعيد، غير مستور بسور ولا مزلقان، وقضبانه قد تنغلق على من يمر مشيا كما رأى في “فيلم عربي” قديم، أما القطار نفسه فيدهس، يطحن، يحطم، هذا المار الشارد كما سمع ممن رأوا الجثث والأشلاء، يكون بعيدا وفجأة يمر فيك، في لحمك المتطاير. لعل بعض العظام وسط القمامة الغابرة وعظام الحيوانات في ثنايا السكة في مراحلها الأقل عمرانا هي بعض عظام هؤلاء المارة العالقين هناك للأبد.
يكبر، وتصغر البلاد، والذات. ينفطم الطفل مرات ومرات ويدرك في إحداها أن كل أطفال البلاد قيل لهم: أين يدخل القطار؟
تصبح البلاد شريطا طويلا من وراء الزجاج، من حقول وبيوت طين وعمائر أسمنت والجبال من ورائها ونيل يطل، وصحراء تطل، وشمس تروح وتجيء، وترع، وأمراض، وفقر كثير، وحزن غريب ورومانسية وحب لعين لما سرعان ما سيصبح اسمه الوطن والحبيبة والأم، ومن ورائه الصورة اللعينة. وعلى مدار هذه السكة روحة وجيئة، على مدار السنين، لن أترجل أبدا في نقطة بين مدن وقرى أقصى الجنوب مسقط رأسي وبين عاصمة البلاد الأولى والثانية، إلا عندما يقذف بي نظام التعليم إلى الجنوب الأقل قصاءً.
***
سقطت قطرة من الدم على يدي التي كنت متكئا بها على نافذة القطار.. ولم ألق بالا للأمر أول مرة، فمسحتها وواصلت استغراقي واستمتاعي بخواطري […] ولكن سقوط قطرة ثانية حفزني لأن أحاول استطلاع مصدرها، فأخرجت رأسي من النافذة ونظرت إلى أعلى فوجدت خيطا من الدماء ينساب من فوق سقف عربة القطار التي يطل من فوقها أطراف حذاء عسكري، وأدركت الأمر بسرعة، فهناك جندي مصاب فوق القطار. […] صحت بمن حولي أن يطلبوا من المسؤولين عن القطار إيقافه بأسرع ما يمكن […] أجمع الناس على أن الجندي […] ارتطم رأسه بسقف إحدى القناطر التي يمر تحتها القطار […] قلت […] إنني طبيب […] كان رأس الجندي مهشما […] وكان قد فارق الحياة تماما […] سلمناه إلى الشرطة العسكرية التي بدأت في جرد محتويات ملابسه […] منديل […] ثلاث سجائر، سبعة عشر قرشا، ختم، برقية. […] “احضر حالا … والدك توفي.” […] لم أعد أرى برغم عيني المفتوحتين لا الأشجار ولا البيوت التي كانت تطل عليها نافذة القطار […] أترى هذا الوطن القاسي على أبنائه المخلصين.. أيمكن لهذا الوطن أن ينهض؟ إن الأمر كله مرهون بقليل من الرحمة يمكن أن تنقذ عالما بأكمله.
—أحمد حجي، «مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس»، ١٩٨٨
***
في الشريط أيضا جسور تُمد، وأطباق تنتشر، … وأقول لأمي في محطة المدينة الريفية البعيدة، البعيدة جدا، قولا يستفزها عن “أولئك الغلابة” الذين يستقلون قطارا بائسا، فتلقي علي حقيقة تاريخية وطبقية: حتى وقت قريب كان هذا هو القطار الذي يركبه أهلي، قبل أن تتوظف البنات ويتزوجن وتنقلهن الوظائف والزيجات إلى قطارات أخرى، درجة ثانية، مكيفة. ليست هي التي ينام فيها الركاب فوق الأرفف، وإن كان متسللون يسافرون فوق أسطحها (كالهارب في فيلم آخر). ليست هي التي تسقط أرضية حماماتها فجأة بمن فيها (كما حدث). ليست هي التي تحترق في منتصف الطريق بمئات الركاب “الغلابة” كما حدث. الحقائق المقلقة لا تخلو من دواعٍ لراحة الجبان، والعكس أيضا صحيح.
أتحرك، كما تحرك أهلي، ببطء لكنه أقل من بطئهم. وفي المدن الكبرى أعرف محطات أخرى، وأعرف فيها الكتب، وأصحب فيها الصاحبات. أعود إلى هاء في الطريق إلى إسكندرية وتقول لي بحياء شيئا عن عروق يديّ لأول مرة. وبعد سنوات غير قليلة يطالعني بغرابة شديدة في أيام الثورة منظر المحطة الموحي بالبذخ أثناء “تجديدها” (من الوهلة الأولى ثبت عندي انطباع بأن النجفة العجيبة – وأنا أخاف النجف منذ شاهدت فيلما قديما آخر – هي مقصلة)، ثم أعود إليها من إسكندرية مع تاء التي لحقت بي لتصالحني، قبل أن نفترق وتعود إلى حيها الراقي. كان هذا قطارها الأول هي ربيبة السيارات. لكن ميم وأنا افترقنا قبل أن نركبه. وركبته مع باء إلى إسكندرية أيضا، هي التي يصل القطار في دولة بلادها في موعده بالثانية، الأمر الذي عجزت عن فهمه. وفي الثانية بعد الأخيرة الأخيرة شاهدت وجه سين وقد اتخذ سحنة غريبة وهي تجري بأقصى سرعتها لتلحق به وبي وأنا على بابه يائسا من قدومها. وفي مرة تالية نادرة سنذهب معا جنوبا، لتصحبني في استخراج أوراق الإعفاء النهائي. قطارها الأول إلى الجنوب، هي الصحفية، هي المحظور تجوالها طويلا من الوالد والوالدة. استجوبنا فرد المباحث إذ ما الذي يجعلنا نسافر سوية بدون زواج أو صلة قربى.
***
قبل أن يترك الطفل قريته، وفيما هو يراهق ويتململ ولا يذهب إلى أبعد من الحائط الأصفر ويحوم وحيدا أو مع خليليه الجاهلييْن أو مع قرين أو أقران حول مهارب الخيالات، في القفار الجبلية، على الطريق السريع، في المحطات شبه المهجورة، كان قد عرف بلا شك عن فيلم لوميير الأشهر، وقصة فزع المشاهدين المضحكة وجريهم من أمام القطار المقبل “بسرعة” على الشاشة.
فمن مجلة تأتي بانتظام من الخليج حاملة بقايا التنوير والتطلعات العربية على ورق مصقول مدعوم، عرف أشياء كثيرة عن بلاد لم يزرها، وأفلام لم يرها، وعن كتب لم يقرأها ولو كانت القراءة هي السبيل الوحيد المتاح. رأى بوضياف لثوان وهو يُغتال على التليفزيون متحدثا عن أهمية التعليم في تقدم الأمم المستقلة ومفتتحا فصلا طويلا في الحرب الأهلية. وسمع بوتفليقة في الإذاعة وهو يتحدث عن الإرادة الإلهية لتسييد اللغة العربية. وسمع عن حَسني لكن العولمة لم تُسمعه إياه وأسمعته خالد ورشيد وفضيل وأرته إياهم، وسرعان ما ستسمره ومن حوله ليشاهدوا على الهواء مشاهد الطائرتين المدنيتين والبرجين.
وفي المجلة قرأ نقدا عن السينما الجزائرية جعله يغضب من فيلم «عمر قتلتو» ويشتاق لرؤية «وقائع سنوات الجمر». (بعد حل مشكلة الوصول بنسبة لا بأس بها، سيشاهد الفيلمين أخيرا بينما يحتج جزائريون على التجديد لبوتفليقة، فيحب الأول كثيرا وليس الثاني.)
وفي وعيه، اقترن الوصف المقروء لعرض أفلام لوميير بما يسمعه عن قوافل الفانوس السحري التي عرضت لأهله وجيرانه القرويين هؤلاء، أيام الإصلاح الزراعي، أفلاما منها واحد عن حرق القصب، هب الناس أمامه فزعين من النيران التي اشتعلت فجأة في جدار الجامع، بينما الشباب المتعلمون الذين ذهبوا إلى سينمات العاصمة يضحكون منهم مع الموظفين الغرباء.
لن أنتبه لاسم المدينة الأولى قبل زمن: لا سيوتا. ولن تثبت “الأفلام الأجنبية” اسم الثانية في ذهني، ولن تفعل ذلك فورا المشاهد المذاعة على الهواء: مانهاتن. لكن سيبدأ تاريخ المدينتين والموقعين عندي من هاتين اللحظتين. أما محطة رمسيس/محطة مصر، حيث فصول كاملة ولحظات ومعانٍ لا تنسى من حياتي، من حياتنا، فسيبدأ تاريخها الجديد الآن.
***
Warning: graphic images. First images of the fire at the train station in Egypt. pic.twitter.com/3o5bBxRQpN
السيدة المتأرجحة في مشيتها من أثر الروماتزم بشنطتيها البلاستيكيتين مثل سيدات مصريات لا يحصين رأيناهن وعرفناهن، قبل ثانية واحدة من ركوب طائرة ١١ سبتمبر الخاصة بها. الفتاة التي تنتبه بالكاد إلى ذلك الشيء الرهيب القادم فتتراجع عن حافة الرصيف ببساطة موجعة غير متناسبة إطلاقا في كل مرة نعيد فيها تشغيل اللقطات. الرجل المشتعل هبوطا وصعودا في السلم في فيلم الرعب المصري الملون “الصامت” القصير فيبعد عنه الناس مومئين في ابتعادهم كل مرة إلى مصدر الخسة الحقيقية الكبرى التي أضرمت فيه الحريق، ومصدر النبل الذي تبقى بعد كل هذه العقود مع دلو المياه.
***
هل شم الحاضرون “رائحة الشواء الزكية بشكل مربك” كما وصف صحفي إنجليزي دخوله مدينة لبنانية بُعيد غارة إسرائيلية في الثمانينات—أم كانت في التسعينات؟ لم يقل ذلك في تقاريره الصحفية اليومية، وإنما في كتاب عن الحرب، صدر بعد سنوات. لا يمكن لصحفي أن يقول ذلك في تقريره اليومي. لن يخرج المذيع الإخباري ليقول “وفي قانا شم مراسلنا رائحة شواء زكية بشكل مربك سادت أنحاء المدينة”. سيقول “ويقدر عدد الخسائر بمائتين وستة وعشرين بين قتيل وجريح جراء القصف.” أو شيئا من هذا القبيل.
***
يعرف دارسو فيلم آخر للوميير “شخصيات” الفيلم بالغ القصر، معرفة تجعلها الدراسة حميمة أكثر منها أكاديمية، تجعلهم “أبطالا”. تميز بين من يظهر ويختفي في ثلاث نسخ مختلفة من اللقطات الأيقونية وماذا يفعل في هذه الثواني بسرعة ١٦ إطارا في الثانية: العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة الحصانين؛ العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة الحصان؛ العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة اللا أحصنة.
ويقول واحد من هؤلاء الدارسين، قضى عاما في جمع وتركيب تناسخات هذا المشهد في أفلام تالية عبر القرن التالي:
في ١٨٩٥، كانت كاميرا الأخوين لوميير مصوبة نحو بوابات المصنع؛ إنها طليعة كاميرات المراقبة الكثيرة اليوم والتي تنتج تلقائيا وبشكل أعمى عددا مطلقا من الصور من أجل حراسة حيازة الأملاك. لعل بمقدور المرء بمثل هذه الكاميرات أن يحدد هوية الرجال الأربعة في فيلم روبرت سيودماك Robert Siodmak «القتلة» The Killers (١٩٤٦) والذين يدخلون، في لباس العمال، مصنع برانيط ويسرقون الأموال المخصصة للأجور. في هذا الفيلم يمكن للمرء أن يرى العمال يغادرون المصنع وهم في الحقيقة رجال عصابات. واليوم فإن الكاميرات المخصصة لمراقبة الجدران أو الأسوار أو المخازن أو الأسطح أو الباحات تباع فعليا مزودة بكاشفات رصد حركة وتسجيل أوتوماتيكي بالڤيديو. وهي تتجاهل التغيرات الطارئة في الضوء والتباين، ومبرمجة على تمييز أي حركة هينة من مصدر تهديد فعلي. (يُشغَّل جهاز إنذار عندما يتسلق شخص سورا، ولكن ليس عندما يطير طائر عابرا.)
هناك إذن نظام أرشيفي جديد في الطريق، مكتبة مستقبلية للصور المتحركة، يمكن للمرء أن يبحث فيه ويستعيد عناصر من الصور. وحتى الآن فإن التعريفات الحركية والتكوينية لتتابع من الصور – تلك الأشياء التي تمثل العامل الحاسم في عملية المونتاج الخاصة بتحويل تتابع من الصور إلى فيلم – لم تصنف ولم تُدخَل بعد.
كانت الكاميرا الأولى في تاريخ السينما مصوبة نحو مصنع، ولكن بعد قرن من ذلك يمكن القول إن الفيلم ينجذب بالكاد إلى المصنع بل ينفر منه.
—هارون فاروقي، ١٩٩٥
***
بتقدم الزمن والبشر والصور: تصبح الحياة في مصر هي بالأساس موضوعا (آنيا) للأرشيف، أكثر منها حياة تنسحب تدريجيا منها ومن الصورة أي معالم تذكر للحداثة وتكتفي الحداثة بالتصوير ذاته، وبينما تأكل السلطة نفسها وتأكلنا تحتفظ لنا بذكرانا الحميمة في بطنها، حيث سنرقد ونأتنس بها ممتنين، قد تشهد على نفسها، لكن تقدم الزمن والبشر والصور يتكفل بأن: تصبح الشهادة الفاضحة مادة للترفيه الدموي كما أصبحت الحروب على الهواء مادة إباحية تفرعت إلى پورنوغرافيا تعذيب؛ يئوّل المذيع الكبير الشبه الغريب بمشاهد البرجين على أن الإرهاب متهم معقول، بين فقرات برنامجه الرائج المساهم بقوة في افتراس ذبائح جديدات ظهرن قسرا في سينما الدولة، التي بعد أن استعاضت عن اللومييرات بمخرجي “الانحرافات”، استعاضت عن أولئك بمخرجي المظاهرات، ثم استعاضت عن هؤلاء بجيوش من الكاميرات المصوبة، يستقر أغلبها الآن في أيدينا.
***
من سيحب أحدا الآن ويصحبه إلى هناك؟ من سينجب طفلا الآن؟ من سيطعم طفلا ويسأله أين يدخل القطار؟ من مِن المشاهدين سيغادر مكانه؟ من سيوقف القطار؟
مالي، دون مغادرة الطائرة، للتزود بالوقود، أكتوبر ٢٠١٦
“يا لأحلامي يا ناتاشا، يا لأحلامي،” كان يقول، ملوحا بعصا صغيرة تصفر. “أأنا أكذب حقا عندما أنقل خيالاتي على أنها الحقيقة؟ كان لي صديق خدم لثلاث سنوات في بومباي، بومباي؟ يا إلهي! يا لموسيقى الأسماء الجغرافية. تلك الكلمة وحدها تحتوي شيئا عملاقا، قنابل من ضوء الشمس، طبولا. وتخيلي يا ناتاشا—ذلك الصديق كان عاجزا عن إيصال أي شيء، لم يتذكر شيئا سوى مناقرات العمل، والحر، وأدوار الحمى، وزوجة واحد كولونيل بريطاني. من منا زار الهند حقا؟… الأمر بديهي—بالطبع أنا. بومباي، سنغافورة… يَحضرني، على سبيل المثال…” “Natasha”, Vladimir Nabokov
كان الخان الأكبر قد أخذ يقلب صفحات أطلسه، مطالعا خرائط المدن التي تتوعدنا في الكوابيس وطلاسم اللعنات: أنوش، بابل، بلاد الجبابرة، بوتوا، العالم الجديد الرائع.
قال: “كل هذا غير مُجدٍ، إذا كان مهبطنا الأخير هو المدينة الجحيمية ولا شيء سواها، وهي التي إليها، في دوامات لا تنفك تضيق، يسحبنا التيار.”
وقال پولو: “إن جحيم الأحياء ليس باعتبار ما سيكون؛ إنْ وُجد هذا الجحيم، فهو الكائن هنا بالفعل، الجحيم الذي نعيش فيه كل يوم، والذي يتشكل من تواجدنا معا. ثمة طريقان للنجاة من مكابدته. الأولى هينة على كثيرين: اقبل الجحيم واصبح جزءا منه، فلا تستطيع رؤيته من بعدها. الثانية خطرة وتتطلب يقظة وترقبا دائمين: ابحث وتعلم أن تميز، في وسط الجحيم، من ليس جحيما وما ليس جحيما، ثم أدِم بقاءه، أفسح له.” Invisible Cities, Italo Calvino
منذ دستة أعوام كان مطلوبا مني أن أعد دليلا للمدينة. كانت الطريقة الوحيدة المسموح بها هي الجلوس إلى المكتب واستخدام الإنترنت والتليفون. كانت المدينة موضوع الدليل هي القاهرة. كانت المدينة الكائن بها المكتب في الشركة الكبيرة هي القاهرة.
منذ دستة أعوام قال كاتب أدلة سفر في شركة نشر أكبر وأعرق إنه كتب عن بلدان لم يرها، وإن هذا لا غبار عليه.
منذ دستة أعوام، وإلى جانب فقاعة المعرفة الآخذة في التعملق العنكبوتي حيث المعلومات تُشتق من معلومات، كانت فقاعة شبيهة وذات قربى على وشك أن تنفجر، حيث الأموال تشتق من أموال… تشتق من أموال تشتق من أموال تشتق…
في «الاستشراق»، يرصد سعيد كيف يأتي الرحالة إلى مصر ويكتب عنها ما أساسه وأغلبه نقلا عن عمدة كلاسيكي سبق مصنفَه هذا الذي في سبيله إلى أن يصبح عمدة كلاسيكيا بدوره من سلالة مخاتير وأمهات وآباء. يأتي المستشرق ليرى ما سبق أن قرأه وتصوره ويؤكد عليه من واقع مشاهدته.
هل اقترف كاپوشتشنسكي ذنبا أجمل عندما كتب عن بلدان لم يزرها فقط وإنما زارها وهي في آتون الحرب، لكنه في وسط أحداثه وشخصياته زرع أشياء لم تحدث وأشخاصا غير موجودين؟
لم يعبأ هيلموت “السائح” في ٤٠ بلدا بالآثار والبشر وإنما بمجرد السير، استخرج بعد يوم واحد في قنا خطأ في خريطتها، ردته الشرطة على أعقابه عند مشارف صحراء أسوان الغربية لأنها ليست مكانا للتجوال لأنها خارج التغطية الأمنية، حيره وجود جزيرتين باسمين اتضح أنهما جزيرة واحدة، النباتات وكتشنر. هناك هاءان أخريان، سارت إحداهما في الجهة الأخرى من البحر للمرة الأولى خارج بلدها وقدماها لا تصدقان أن هذه هي الأرض نفسها، وجاهدت لتصف الشعور، وعادت الأخرى من كل البلدان التي زارتها في كل مرة “كالخشبة”، مهونة علي ربما.
لا يسافر المصريون المعاصرون (ربما المحدثون؟) إلى بلاد وإنما إلى دول. يقول واحدهم إنه سافر إلى دول كثيرة، وتقول واحدتهم إن أحلى دولة هي … أفكر في كل مرة مع كل تركيبة جديدة مدهشة: إلى هذا الحد تمكنت الدولة من الخيال واللغة. أفكر في كل مرة: كأن القائل ذهب في زيارة إلى برلمان البلد أو مقر حكومته ومراكز شرطته وثكناته. أفكر في كل مرة: هل تغذي اللغة والخيال بدورهما الدولة؟ أهما أساساتها المعنوية الأمتن من الخرسانة المسلحة؟ أفكر الآن: هل الدولة فقاعة؟
مقابل أربع سنوات لم نر فيها بعضنا البعض أو نتبادل كلمة، يلتقي كفانا لأقل من ثانية لا تكفي لنكوِّن عنها أي ذاكرة ولو قصيرة، ولا تكاد عينانا تلتقيان، ونقول في نفس واحد لا تكاد فيه الكلمة تخرج من حلْقينا: إزيك.
أفكر في عدد المرات التي ذكرتِ فيها اسمي وذكرتُ فيها اسمك في هذه السنوات الأربع. وعندما قابل كل منا صاحب الاسم لم يبادله سوى كلمة واحدة وصداها: إزيك.
ما أعنف اللغة يا عزيزتي. ما أعنفها.
***
في السويعات التالية للقائنا الغريب تواجدنا في المساحة نفسها، وسط الأصدقاء والمعارف، وأحباء آخرين، سابقين وحاليين. وكما نتحاشى النظر إلى الكوارث والمآسي والفظاعات، تحاشينا النظر. عزائي أنني لم ألتزم بذلك، وأنك لم تسمحي لي. إنني دائخ منذ ثلاثة أيام وبقلب خائر بعض الشيء، ولا يساعدني سوى العمل والتأمل والحديث مع صديقات عن الأمر. ولم أفق من سكرتي وسطلتي إلا لأدرك السكْر، التسمم الكحولي، الناتج عن اللقاء، ولأفك شيئا فشيئا شفرة ما وصلني منك، بدون أي كلمات سوى: إزيك.
***
ووراء السخرية، ووقع العنف، وبعد الكارثة، والدوار، والقلب الخائر، هناك سعادة يؤسفني أنني لا أستطيع وصفها، لك على الأقل، لكني سأحاول.
وأنا أشاهدك ترقصين، بل وأشاركك أحيانا – ولا أشاركك – حلبة الرقص، لم أملك إلا العودة إلى ليلتين تفصلهما أشهر قبل أربع سنوات. في الأولى تراقصنا بصدفة عجيبة لأول مرة، وبانسجام غير مفهوم، ومع صباح اليوم التالي كنا نتراسل بدون انقطاع. وفي الثانية تراقصنا، بتوتر، وأنت تعلنين أمام الناس أخيرا أنك مع هذا الشخص، أنها ليست مجرد صدفة في مرقص وسط الأصدقاء. وفي صباح اليوم التالي كنا قد انتهينا.
***
لماذا أنا سعيد إذن؟!
لأنك لستِ فلانة التي عرفتها يا فلانة.
أنا لست أعمى ولا تافها لكي لا أرى الألم. لكنني رأيت أيضا الحرية. القوة. الجمال الذي لم يسمح بسحقه وإيقافه عن الحياة والنمو. رأيت الفتاة التي كانت تكتشف معي جسمها بخجل قاتل كأنه لم يُلمس من قبل، وقد صارت بكل هذا التحرر، الانطلاق، البرِّية. ليس أمام شخص واحد يملكها. صارت تتلامس بكل هذه الراحة مع أصدقائها. الفتاة التي صدمها أن أشعر منذ سنوات في رقصتنا الأولى بشيء يدعوني إلى ملامستها وجس نبضها، قائلة إن هذا يعني كم هي امرأة “يائسة”، محرومة، غير محتفظة بالوقار اللازم لفتاة تحترم نفسها وقيمتها، تُدعى ولا تدعو.
كنت أراك الآن وأعرف أنك، واعية أو غير واعية، تريدينني أن أراك. تقولين لي انظر. أنا أعرف الآن أنني جميلة جدا كما كنت تقول وأنكر ولا أصدق. تطلّب الأمر رحلة شاقة، ومزيدا من الآلام، والخوف، لكنني بدأت ذلك معك. انظر إليّ. اُشعر بالألم والخسارة مرة أخرى. اِتْحَرْقَصْ (كما قالت صديقة سابقة عما فعلته أمام صاحب سابق). ولكن هوِّن عليك أيضا. فرصة سعيدة. شكرا. معلش. وحشتني. إزيك.
***
أنا سعيد أيضا لأننا لم نلتق إلا بعد أن كنت قد كتبت لك، أخيرا، رسالتي الغرامية الوحيدة والمتأخرة، شكرا وعرفانا، وسلاما. (لم أعرف إن كان وصلك كلامي وماذا عساه فعل، ولا تعرفين ربما ماذا فعلت فيّ مشاهدتك، ولن تعرفين ربما إذ لن تُرسل هذه الرسالة إليك.) قلتُ إنني، وبعد زوال الغضب، وتراجع العنف، وانسحاب السم، وعيت على حقيقة كم كان حظي جيدا بلقائك، وأنني أيضا أفضل بسبب ذلك اللقاء، وأن شيئا لم يكن بأيدينا تماما. فما أعنف هذه الحياة يا عزيزتي. وما أقسى هذا القلق الذي ينهشنا، ويضيعنا من بعضنا البعض.
***
والآن، وإضافة إلى صورتك التي تسكنني منذ أربع سنوات، أنا الهارب من الصور إليها، تطاردني صورتك الجديدة، التي خلقتيها لنفسك من طين الحقيقة الذي ظننتيه وحلا ومن روح الخيالات الضالة في العالم منذ هبطنا من الجنة.
بينما قد تتردد اليد بعض الشيء وهي تكتب الجملة في دفتر صاحبها الخاص، وبين مزدوجين، كتبها “هو” على سور الكورنيش، مرئية وبخط واضح للقادم من قصر النيل إلى ماسبيرو، وإن في مرحلة منه منزوية نسبيا، بمصاحبة رقم هاتف محمول. وقف هنا في وضح النهار أو آخره ربما وكتبها. كان بمفرده أو مع صاحب أو صديق غطى عليه، ولا نعرف إن كان أيضا غار عليه أو منه، كما قد نغار نحن.
بعد خطوتين وابتسامة فكرت في العودة والتقاط صورة. ربما تمحى الكلمات غدا أو قبل غد. إذا بقيت إلى الغد سأفعل قبل أن تمحى بعد غد. فكرت أيضا في الاتصال للتهنئة على الشجاعة، وفي تمويه الرقم إذا نشرت الصورة، بالرغم من “قرار” صاحبه، إذ بمصاحبة الشجاعة قرأت أيضا اليأس والندم المحتمل. لقد اتناك بلا شك وإن كنت أشك كثيرا في أنه اتناك كما يحب، كل يوم.
مساء في طريق العودة وبعد التقاط الصور حلت في أخيرا روح الشكاك التي تبارك بحكمتها وانقشاع أوهامها جيلي. لابد أن الكتابة لشخص (منتقِم) والرقم لآخر (منتقَم منه).
لقد ناكتنا الحياة يا جماعة. وأنجبت منا عيالا، أجنة، جنينا واحدا على الأقل نحمله، نحملها، إلى الأبد. ناكتنا وأنجبت منا ومن الضروري الآن أن: ١- نعترف بأنها ناكتنا وأنجبت منا. ٢- نعترف بالعيال. ٣- نخرج هؤلاء العيال ليلعبوا جميعا في الشمس لأول مرة في حديقة كبيرة جدا ننشئها لهذا الغرض. ٤- نستخدم وسائل منع الحمل من الآن فصاعدا وإلى حين بيقظة تامة. ٥- نتخلص من هذا الفالوس العملاق الذي تنيكنا به الحياة ونضعه في المتحف مع آثار الحضارة. ٦- نبكي ونصرخ طويلا جدا جدا في الحديقة. ٧- نتناك بشكل جديد تماما، بشكل غير حضاري، بشكل لا تحمل فيه كلمة نتناك كل الأحمال التي تحملها الآن.
هذا الفيلم العلامة هو بدءا من عنوانه وإعلان مخرجيه الثلاثة الافتتاحي عن رفض الترجمة يسير في مستويين مترابطين لموضوع واحد: حاجز اللغة والاستلاب الإعلامي. فبدلا من تقرير إخباري يختزل في أقل من دقيقتين الساعتين الطويلتين إلى حد العذاب، وبدلا أيضا من وثائقي يلتقط حالات إنسانية من هذا السجن المفتوح على الحدود التونسية-الليبية (وهذه في حد ذاتها معلومة اضطرارية ليست من داخل الفيلم) ويتقصى بشكل بحثي ما وراء هذه الحالة من خروج وانتظار رعايا حكومات مختلفة عالقين، يقدم لنا الصناع ما يبدو للوهلة الأولى مادة خاما تقريبا.
في اللحظة الوحيدة التي يبدأ فيها عامل نيجيري بالكلام عن رأيه في التعايش يشوشر عليه حوار مواز مع عامل آخر. المساواة في الظلم عدل كما تقول الجملة المأثورة؛ إما أن يتكلم الجميع أو لا أحد. (من يمثل من؟)
إننا نعاني (أو المطلوب أن نعاني) أقرب معاناة ممكنة للبشر في الفيلم، ونُحرم من التواصل قدر حرمانهم. لكن ذلك لا يجب أن ينسينا أن التصوير والمونتاج يعنيان الانتقاء حتما. كما أن الصناع يفقدون هم أنفسهم الصبر أحيانا على الصمت فيما يبدو فيسألون رجلا آسيويا عن مصدر الخبز. لكنهم في النهاية ينجحون فيما يرمون إليه من خلال ‘حقيقتهم’ الناقصة بالضرورة.
هذا فيلم تأملي مهم عن الفضاء والسلطة والاتصال (أو بالأحرى انهياره كما تقول أغنية لد زبلن)، بابل لعنة الحضارة هذه المرة لا السماء.
[كتب هذا النص في الأصل ضمن أنشطة ورشة كراسات السيماتيك، دورة بإشراف الطاهر الشيخاوي.]