طيف خيال: “لم يَرِدْ”


في قصيدته المعبأة بالمجاز، حتى بمقاييس الشعر عموما، والشعر العربي خصوصا، إلى حد أن بيتا في قصيدته قد يكون الأكثر صورا على الإطلاق، يقول الوأواء الدمشقي (وقيل يزيد بن معاوية):

قالت لِطيف خيالٍ زارني ومضى

بالله صفه ولا تُنقص ولا تَزِدِ

فقال خلّفتُه لو مات من ظمأٍ

وقلتِ قف عن ورود الماء لم يَرِدِ


هذا الشعر الآن يتلبسه فجأة معنى جديد، شخصي، لا يمت بصلة إلى رومانسيته العذرية واستعاريته اللتين كانتا دائما كثيرتين على هضمي: فجأة أصبح أفضل الأقوال تعبيرا عن كيف يعمل جسدي، رغبتي ذاتها، بالتعاون مع أخلاقي ربما.
لو مِتُّ من ظمأ، إلى مائك أو إلى الماء عموما، وإذا لم يكن في المتناول سوى الأول، فاقتربت طالبا إياه، وقلتِ “قف!”، لارتددت من فوري ومِتُّ من ظمأ.
لكن من يقول هذا؟ طيف خيال. من سيسأله؟ أنت لن تسألينه. ستسألين خيالا آخر غير الذي زارنا معا أو زار كلا منا على حدة. وأين هو عموما خارج القصائد؟ هل لطيف خيال أن يتكلم؟
وماذا قلت أنت؟ قف؟ لا، بل قف أضعف كثيرا من ذلك على السمع وأكثر توغلا في المجاز والظلال والبين بين. لكنه وقف، ليس فقط عن ورود الماء، وإنما عن طلبه. وليس طيف خيال هو من يقول، وإنما الميت ظمأ.
وما حاجتنا اليوم إلى طيف خيال ومجاز وظلال وبين بين ولدينا اليوم آلات لتسجيل كل ما يدور بيننا وحول أشرطتنا الحدودية وروبوتات وصيغ تفاهم روبوتية؟ (لا تُنقِص ولا تزيد؟) وفيم كل هذا التوزيع للأدوار بين عيون ماء وطالبي ماء وكل حروب الماء هذه؟ فيم البحث عن قصة؟ ولماذا اعتقدتُ أن غاية الشرف هي الموت ظمأ؟ لعل غاية الشرف هي الموت ظمأ دون “لو” ودون “قف” ودون ورود ودون طلب. ومن يرد عليّ الآن شرفي؟

***

لا يهم. فعلينا ألا ننسى الخبر الأهم في كل هذا، وألا تنسينا إياه بلاغة الشاعر: كنت بالأمس تتكلمين، وكان طيف الخيال يتكلم، فقط عندما يتكلم الشاعر. أي: كان الشاعر فقط هو من يتكلم. (فقط؟) اليوم تتكلمين، وتنقلين أنت عن طيف الخيال. ولعل ما على الشاعر الوقوف عنه ليس الطلب والورود فحسب، وإنما الكلام أيضا. فهنيئا لنا جميعا—حتى لو كنا نتعجل التهنئة أثناء توزيع جديد دون العدالة والسلام: لعل ماء الغد – إن وُجِد – أن يكون أطيب وأعدل وأشد إرواءً.

***

كنت أغفر لو أنني مِتُّ

ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ

لم أكن غازيًا

لم أكن أتسلل قرب مضاربهم

لم أمد يدًا لثمار الكروم

أرض بستانِهم لم أطأ

لم يصح قاتلي بي: “انتبه”!

كان يمشي معي..ثم صافحني..ثم سار قليلًا

ولكنه في الغصون اختبأ!

فجأةً: ثقبتني قشعريرة بين ضلعين

واهتز قلبي كفقاعة وانفثأ

«لا تصالح»، أمل دنقل

***

قال رجل آخر، سيد آخر، بل سيد الرجال:

“إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد.”

منير ١٩٨٩


هذا الڤيديو من حفلته في كلية الفنون التطبيقية في ١٩٨٩ يكاد يكون المدخل المثالي لفيلم وثائقي عن حياة وزمان ومسيرة محمد منير: لقطات ذات طابع أرشيفي شخصي من شريط ڤيديو منزلي رديء مرفوع على يوتيوب منذ ١٠ سنوات، في ذات المكان الذي تخرج منه قبلها بدستة من السنوات، تحديدا في قسم الڤيديو، وبعد وقت قصير من إصدار ألبومه السابع، الانتقالي، شيكولاتة، يتحدث في الثواني الأولى منه عن الكلية والحرية ومصر والحرب، معلقا على رفض بعض الطلاب (الإسلاميين كما نفهم ضمنا) إقامة الحفلة:

أفكر زملاءنا اللي رفضوا تواجدنا ف الكلية…من حقهم…ومن حقهم يرفضوا دا ويعبروا دا ف صورة…بأي صورة ترضيهم…بس بافكرهم بجيلي أنا واللي موجود منه كتير يعني على ما أتذكر الدكتور محمد الصاوي، الدكتور حسين فهمي، والدكتور عادل الحفناوي، كلهم يتذكروا إن احنا سنة 70 و71 و72 عملنا مظاهرات زيهم. بس الفرق بيننا وبينهم إن المظاهرات دي كانت بتطالب مصر إنها تحارب.

لكن دلالات الڤيديو في سياق محمد منير تعود بالأساس إلى دلالات أكبر للحظة: فمحمد منير في بدء مغيبه هو شخصيا، تماما في اللحظة التي يخطو فيها بعيدا عن مشروعه الطويل الذي خرج معه  إلى النور مع فرقتي هاني شنودة ويحيى خليل، وفي معية مكتشفه وراعيه وملحنه الأول أحمد منيب الذي يعيش أيامه الأخيرة، وبرفقة شعراء عامية مكرسين وشباب وجدوا فيه أخيرا صوتا لهم، متحررا منهم وضائعا في آن معا، وهؤلاء جميعا وبلادهم ومن شابههم في العالم في ذروة لحظة الانكسار والانهزام الكبرى في تاريخ اليسار العربي والعالمي وكذلك العالم الثالث وقوى التحرر:

في البدء كانت الهزيمة. … من نصف السبعينيات الثاني، كانت الحركات الاحتجاجية المولودة في أواخر الخمسينيات… في حالة اضمحلال. وأسباب ذلك شتى… وقد وجدت عملية الاضمحلال هذه التعبير الأوضح عنها…في سقوط جدار برلين. من الواضح أن شيءا كان قد انتهى في حوالي عام ١٩٨٩. المشكلة هي أن نعرف ماهية هذا الشيء ونحدد متى بدأ الشيء الذي انتهى.

(Razmig Keucheyan, Hémisphère gauche. Une cartographie des nouvelles pensées critiques, La Découverte, 2010.)

وفقا لهذه النظرة فإن محمد منير يعتلي المسرح ويلقي كلمته الغاضبة الحزينة الوجيزة البليغة في نهاية دورة كبرى إلى هذا الحد أو ذاك من التاريخ الحديث، بدأت إما: ١- قبل ذلك بثلاثة عقود مع صعود اليسار الجديد على خلفية بدأت تحديدا في موقعين جغرافيين أحدهما مصر (السويس، ١٩٥٦)؛ أو ٢- قبل ٧ عقود مع الثورة البلشڤية، والتي هزت العالم “مبكرا جدا” بما فيه مصر وبقية المستعمرات المتنازع عليها مجددا بنهاية الحرب العظمى، وهذه العقود السبعة تساوي القرن العشرين “القصير” كله بحسابات هوبزباوم؛ أو ٣- قبل قرنين بالتمام والكمال، وبحسابات هوبزباوم كذلك، أي منذ اندلاع الثورة الفرنسية، ١٧٨٩، افتتاح القرن التاسع عشر “الطويل”، والتي سرعان ما ستأتي بناپليون وحملته على مصر والولع به بما في ذلك افتتان مؤسس مصر الحديثة، والمصريين أنفسهم، به.

أقصر الدورات المحتملة إذن تعود إلى ما بعد مولد محمد منير بعامين، وتصل إلى ذروتها في ١٩٦٨، بعد عام من الهزيمة المنكرة لمشروع تحرر الضباط الأحرار، والتي سيطالب الطالب محمد منير وزملاؤه بإنهائها… عسكريا.

(يُتبع)