Instructions for a Light & Sound Machine (Peter Tscherkassky, 2005) on Dailymotion
من خلال إعادة تدوير تراث السينما المصرية السخيف والمثير لمشاعر متناقضة، منها الحنين للأسف، يؤكد حسين الإمام («زي عود الكبريت»، ٢٠١٤) على أن أعواد الكبريت قد تشتعل مرة أخرى، وأن لا عيب في هذا، بل تصبح قيمتها أكبر.
يصل التدخل في قلب المحاكاة الهزلية إلى جانب تخليق قصة واحدة من قصص إلى حد تصميم متاهة مغشوشة، وكابوس مهلوس، يضحك ويرهق ويسمم بجرعات خفيفة غرضها أن تكون ترياقا.
بانتهاء الفيلم إلى “بستان الاشتراكية” وافتقاد الراوي المجرم ذكريات الماضي الجميلة يصبح هذا عملا فريدا عن الماضي المصري الإجرامي سياسيا واجتماعيا في ظل أنظمة وثقافة سائدة تشوهت فيها الوطنية والرابطة الأسرية والاجتماعية إلى سراديب رهيبة من الأكاذيب والأسرار والتشوهات العميقة والابتذال وسفاح المحارم وتحالف الأعداء كما يُظهر داود عبد السيد بلغة كوميدية أخرى في «مواطن ومخبر وحرامي» (٢٠٠١)، على عكس نسخة الحرب الأهلية الصريحة في نهاية «عودة الابن الضال» (يوسف شاهين، ١٩٧٩).
إمكانية الكابوس المتاهي متحققة بكاملها في «تعليمات لماكينة ضوء وصوت» Instructions for a Light and Sound Machine (٢٠٠٥)، كابوس مغلق في هذه الحالة، لراعي بقر وحيد ضال ملعون، لكن فيديوهات عمر عادل على يوتيوب تلامسها في منطقتها الساخرة الخاصة وتلاعباته العابثة شديدة الدهاء.
وترينا أفلام علاء عبد الحميد الدراسية (لصورة الفنان في السينما المصرية) إمكانية أخرى لإحياء الأرشيف السينمائي هذا الذي قوامه الأفلام التافهة التي تبث وتعيد إنتاج التخلف على مستوى الأيديولوجيا والذكاء معا. أما «عندي صورة: الفيلم رقم ١٠٠١ في حياة أقدم كومبارس في العالم» (٢٠١٧) ففضلا عن تأملات محمد زيدان في السينما المصرية وحب هذه الأفلام وربطها بالتاريخ الحديث وفكرة البطل الزعيم والشعب في دوره الثانوي، فهو ينتصر لبطله الذي لم يعد ثانويا إذ تُنتشل مشاهده العابرة من الأفلام وتوضع أمام تسجيلات له في أواخر حياته الحقيقية كممثل معتزل لتكون سردية هجينة بكل المعاني.
قد تكون أكبر محاولة ناطقة بالعربية لعمل شيء من كل هذا هي «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» (رانيا إسطفان، ٢٠١١)، لكنها محاولة غير مقنعة ولا مرضية بالمرة، لأنها فيما يبدو غارقة في الحنين وحب السينما وحب سعاد حسني وحب الأرشيف وخالية من التفكير والنقد.
انخفاض جودة المقاطع المختارة من الأرشيف في فيلم الإمام قد يكون اختيارا يشير إلى مآل أصول هذه الأفلام في مملكة صحراء النفط، ويجعلنا نتساءل عن مدى أحقيتها بالترميم (إن لم يكن لفنيتها المطعون فيها فلأغراض أخرى). لكنه أولا وأخيرا جزء من اختيار حياة الإمام الابن وعمله: بخفة، دون جدية شديدة.
[تحديث: لمطالعة تأمل وتحليل أشمل للتجارب المصرية والعربية ضمن هذا الغرض المحدد لهذا النوع من الأفلام انظر هنا وهنا، حيث توجد مادة بحثية عملت عليها أثناء إعداد وتصميم برنامج أفلام أقيم بأبو ظبي في نهاية ٢٠٢١.]
“هم الإدارة يا ليل
واحنا الحيارى”
—من أغنية لعدوية، “يا ليل يا باشا”، حسن أبو عتمان
مثّل فيسبوك وتويتر فرصة تاريخية لأبناء وبنات الطبقات العليا والوسطى المرتفعة في جنوب العالم ممن اختنقوا بملل طبقتهم—الملل الذي أضفته على العالم طبقتهم في أصلها الشمالي. كان وضعهم الطبقي المميز قد منحهم الرفاهية الكافية للتأمل والتطلع والمقارنة والتوفيق بين تخلف مجتمعهم المحافظ وانفتاح المجتمعات الأقل محافظة. ثم منحتهم الوسائط الجديدة المجال لإشباع فضول التجربة لديهم وتحقيق اللقاءات المستحيلة. كما أراحتهم عوامل مسويّة، أي مساواتية مخادعة، بردم الفجوة دون جلبة، بما سرعان ما سيتبين للعالقين على الناحية الأخرى – إن لم يسقطوا طويلا في الفجوة التي ستنتفتح تحتهم فجأة من جديد – بأنها لم تُردم سوى بخدع لغوية-سينمائية وديكورات.
هذه اللقاءات العابرة تتخذ، في أشدها إيلاما بأثر رجعي، شكل الصداقة أو الحب أو الرفقة السياسية. وإيلامها مركّب: غدر العالم من خلال استقراره؛ كثافة التجربة القصيرة؛ تفاوت القدرة على أخذ القرارات؛ الوعي اللاحق بكل ما كانت الديكورات والخدع قد نجحت في إخفائه.
ولأن أشياء كهذه، مهما يكن، مكلفة، كما أنها تعتمد على عوامل زمنية تقوي إمكانات الفرصة التكنولوجية – كأنْ تقوم ثورة مثلا وتنحسر – فسيهتدي أبناء وبنات الطبقة إلى حل أقدم قليلا وإن بشروطه التكنولوجية الجديدة أيضا:
لقد ألهم البؤس الاجتماعي المرتاحين ماديا بالرغبة الملحة في أخذ الصور، وهو أرق أشكال الافتراس، من أجل توثيق واقع خفي، أي واقع خفي عنهم هم.
محدقا في واقع الآخرين بفضول، بانفصال شعوري، باحترافية، يشتغل المصور الفوتوغرافي المنتشر في كل مكان كما لو كان ذلك النشاط يتجاوز المصالح الطبقية، كما لو كان منظوره عموميا. في الحقيقة، تبدأ الفوتوغرافيا في الاستقلال بنجاح بوصفها امتدادا لعين فلانير [متصعلك] الطبقة الوسطى، الذي رسم بودلير خريطة دقيقة لحساسيته. الفوتوغرافي هو … ذواقة للتماهي العاطفي، … . الفلانير… ينجذب إلى… واقع غير رسمي متوار خلف واجهة الحياة البورجوازية “يمسك به” الفوتوغرافي، كما يمسك محقق التحري مجرما.
—“Melancholy Objects”, On Photography, Susan Sontag
تشبع العلاقات واللقاءات العابرة مع غير أبناء الطبقة احتياجات شتى لدى أبنائها: المغامرة (المستحقة بفضل التميز)؛ تخفيف الضيق بالغربة، على الأخص مجتمِعا بإحساس ما بالذنب يشوشر على الاستحقاق ويعكر صفو التميز وتقويه الثورة القصيرة الكثيفة بدورها؛ الشعور الطيب بتجاوز الإحسان إلى الكرم والقوة والتضامن (شعور بأننا من ناحيتنا حاولنا). وتشترط هذه العلاقة السياحية دون إدراك السائح(ة) بالضرورة درجة من الاحتماء، حيث لا يدرك بوجودها مثلا في شقة الآخر الفقيرة أحد، ولا ترى بصحبته إلا في سياقات ملتبسة أو عامة، وتكتمل مثالية هذا الاختفاء عندما يتخذ اللقاء شكل صور فوتوغرافية لهؤلاء الآخرين الأقل حظا بمسافة موضوع السياحة الإنسانية/السياسية، حتى لو عنى هذا النجاح أمانا أكثر/مخاطرة أقل وكثافة أقل، تُحل بوفرة الصور.
الإرهابي
لم يعد ولع الإرهابيين بالصور وهوسهم بإتقانها أمرا جديدا—ربما لم يكن أبدا جديدا بسبب طبيعة الإرهاب حتى لو سبق عصر الصورة بمعناها الحديث. لكن الأشد أصالة لدى الإرهابي هو هوسه بالقصة. نعرف ذلك الشعور الذي يتنزل علينا رويدا بوراثة العالم، وبالتالي امتلاكه نسبيا، ويعذبنا موضعنا القلق وغير المحدد من هذه القصة التي تتكشف أمامنا ببطء ولكلٍّ حسب مداخله إليها. ونعرف أولئك الذين تثبّت انتباههم على قصة بعينها إلى حد الكلام عن دورهم (الوهمي) فيها: كيف عرف(ت) ريا وسكينة مثلا، كيف أنه هو من اختطف الطفلة الأمريكية التي تمثل قضيتها لغزا غير محلول بعد، قبل أن تسخف الواقعية والاحترافية حماسهم فتدفعهم إلى الإنكار أو تفرج عنهم مع توصية بالعرض على طبيب.
يؤمن الإرهابي في الكثير من الأحوال بأمرين متناقضين ولكن منسجمين: حتمية التاريخ وغائيته، وحتمية دوره كذلك (أي حاجة التاريخ إليه). للحماقات الكبرى سحرها الخاص الفائق على الأخص لدى الغاضبين المغبونين عميقي الشعور بالضعة والهوان. فهذا العاجز عن عمل أشد الأفعال بساطة واتخاذ أكثر القرارات تفاهة بسبب قيود النظام السياسي-الاجتماعي يمكنه بتفجير نفسه، أو، وهو الأشد غواية هنا، تنفيذ مذبحة ثم الهناء بأضواء المسرحية، “تغيير” التاريخ. وكما تؤتي الصورة فعلها بمصاحبة سردية (مهما بلغت قوتها وجودتها: تعليق الصورة كأضعف الإيمان—بنيامين، سونتاغ، ماركر) تكتمل فخامة المذبحة مع مانيفستو يصعد بين عشية وضحاها إلى قمة “الأعمال” الأعلى قراءة في دوائر بعينها، ويكتسب احتراما إجباريا بسبب جدية الأمر وموضعا في السردية التي لم يكن البطل-المؤلف الجديد حتى صباح اليوم سوى قارئها المهووس.
هـ. م. س.
في بورصة جلسات النميمة بأنواعها تعلو قيمة بعض القصص على غيرها وتخضع للتكهنات والمضاربات، أو تتوزع الاهتمامات عليها حسب الذوق والرغبة. وبالرغم من أن ترديد كل إشاعة وقيل وقال هو في أحد وجوهه – على الأخص عندما تصاحب ذلك ثقة وتفاصيل وتأكيدات إضافية لإضفاء المرجعية والمشروعية – دعوى امتلاك للقصة ومزاحمة لوضع قدم فيها، فبعض هذه القصص يغري دونا عن غيره بـ”التدخل”، ربما تحديدا لغموض تفاصيله ونقصه وطابعه التفاعلي، كالمؤلفات التي تهدف إلى إشراك القارئ ودراسة الاحتمالات.
في الحياة الحقيقية لا تصبح هذه احتمالات بقدر ما أنها مساحات للفرجة المستمرة؛ مجسمات للتنفيس عن الغضب والانتصار للتحيزات؛ مواد للعب والتشكيل والتعويض عن الحسرة أمام قصص أخرى مغلقة. يطمح البعض بفضل موهبة أو موقع أو جدية أشد في مساهمة مختلفة نوعيا، مضفيا المشروعية والمرجعية بما هو أكثر من ترديد الكلام: يمكنك بالفعل أن تصبح جزءا من “القصة” بأثر رجعي. أنت هنا مؤلف بمعنى أكثر إيجابية ومادية. كما يمكن للروائي أن يدرس جعل كمال وعايدة يلتقيان في الجزء الثالث، يمكنك أن تدبر بالفعل لقاء بينهما في الحياة الحقيقية، لأول مرة منذ سنوات، لم تشهدهما قبلها، لم تعرفهما، لم تكن موجودا، وتستمتع بمراقبة ما يحدث، نتيجة فعلك الخَلقي، بقوتك، بوجودك في زمان ومكان لم تكن فيهما. لقد امتلكت القصة بالفعل حتى قبل ترديد الكلام: عندما اختزلتها بينك وبين نفسك إلى مشاهدها الأخيرة أو طبعاتها الرائجة. كل ما يتلو ذلك هو صيرورة امتلاك القصة، أو بالأحرى نهبها. أنت أيضا «بطل من ورق».
“الثورة”
وهكذا فإلى الحداثة انتميت أم إلى ما بعدها أم إلى ما قبلها، ستنتهي دائما إلى “دخول” القصة، وإلى امتلاكها كرواية واحدة كبرى أو ممزقة نهب كل ريح، راغبا أو مجبورا، بحماس أو – مثل أغلبنا – بدون (أو بالأحرى، بحماس أقل). ربما لا يمكن تصور التاريخ ومجرد الاتصال الاجتماعي دون هذه العملية—فإلغاء القصة أو تأليفها مجددا بقدر ممعن في الخيال النقدي يتطلب شروطا باهظة التكاليف وخارج الشروط الإنتاجية الحالية. ولكن هل يمكن تصور هذا الأمر الأخير نفسه – إذا أسميناه “الثورة” مثلا – كعملية خالية من امتلاك القصة إلى هذا الحد أو ذاك، على هذا النحو أو غيره؟
هل يمكن لمن تنضم إلى قصة مهمة باستخدام وسم موحد يعلن حضورها ودخولها، #أناـأيضا، أن تمتلك القصة الكبرى أيضا بقدر من الإبداع يتخيل القطع حقا مع الفصول والأجزاء السابقة؟
هل يمكن لمن يقضي عمره في المقاومة والتمسك بقصته وثقافته أمام من يسلبونه إياهما (حتى موته يسلبونه إياه) أن يبذل أيضا الجهود لنزع طابع الملكية الخاصة – بكل ما تعنيه من التفاوت الرهيب في القدرة على الاستحواذ وتكريس القصص – عن كل قصة بما في ذلك قصته؟
الرواية الكبرى سجن موحش فسيح إلى حد يوحي بأنه مفتوح (جماعي/جماعاتي)—«منطق الطير» للعطار؟ الروايات المتعددة متاهة جحيمية باذخة (فردية/فردانية)—“حديقة الطرق المتشعبة” لبورخس؟ القصة الكبرى ليست هنا بعد. ويتطلب اكتمالها بما يكفي توفيقا عميقا ومقنعا لعدد وافر من كل شيء وعكسه، كل قصة وأخرى مغايرة ومضادة. إذا كان للانشطار النووي أثر الدمار الشامل، فهو يعطينا فكرة عن الأثر الشامل الآخر لهذا النوع من اتحاد الذرات.
إنه سؤال بلاغي. يبتهج إزاءه الطفل فاغرا فاه الغض للملعقة القطار. يتغذى. يكبر. ولعله يفكر في القطار، وفي ماهية هذا القطار. يربطه بالصوت الآتي كل بضع ساعات من حدود القرية؛ عند محاكاته بالفم الملتصق بغتة بأذن الأم أو الخالة، بالمرح الشرير لطفل، صوت مختزل بشدة وطفولي ليس جهوريا ولا مفزعا حقا كما يراد به، لقطار ليس أكثر من دمية مسلية.
يكبر وبعد قليل يقترن القطار بأشياء أخرى غير مرحة. كما في أغنية عربية لخضر العطار تعلن بعد موال قصير “كرهت صوتك يا قطار / كرهت ساعات الرحيل”. إنه لا يفهم النوبية ولا يصله كل غناء الحلفاويات الثلاث المعروفات بالبلابل، لكي يتأكد القطار كعلامة حميمة على الغربة والتهجير على الجانب الآخر أيضا من الحدود. ولا يصله أبدا صوت قطار حمزة الذي يفككه إلى إيقاعات تتحدث ما يشبه النوبية، فيما صار وفق اسمه العالمي “بطاقة معايدة“.
وبأشياء أقل مرحا: فشريط السكة الحديد طويل بطول البلاد، يصل إلى مصر وإلى البحر ويمر بكل الصعيد، غير مستور بسور ولا مزلقان، وقضبانه قد تنغلق على من يمر مشيا كما رأى في “فيلم عربي” قديم، أما القطار نفسه فيدهس، يطحن، يحطم، هذا المار الشارد كما سمع ممن رأوا الجثث والأشلاء، يكون بعيدا وفجأة يمر فيك، في لحمك المتطاير. لعل بعض العظام وسط القمامة الغابرة وعظام الحيوانات في ثنايا السكة في مراحلها الأقل عمرانا هي بعض عظام هؤلاء المارة العالقين هناك للأبد.
يكبر، وتصغر البلاد، والذات. ينفطم الطفل مرات ومرات ويدرك في إحداها أن كل أطفال البلاد قيل لهم: أين يدخل القطار؟
تصبح البلاد شريطا طويلا من وراء الزجاج، من حقول وبيوت طين وعمائر أسمنت والجبال من ورائها ونيل يطل، وصحراء تطل، وشمس تروح وتجيء، وترع، وأمراض، وفقر كثير، وحزن غريب ورومانسية وحب لعين لما سرعان ما سيصبح اسمه الوطن والحبيبة والأم، ومن ورائه الصورة اللعينة. وعلى مدار هذه السكة روحة وجيئة، على مدار السنين، لن أترجل أبدا في نقطة بين مدن وقرى أقصى الجنوب مسقط رأسي وبين عاصمة البلاد الأولى والثانية، إلا عندما يقذف بي نظام التعليم إلى الجنوب الأقل قصاءً.
***
سقطت قطرة من الدم على يدي التي كنت متكئا بها على نافذة القطار.. ولم ألق بالا للأمر أول مرة، فمسحتها وواصلت استغراقي واستمتاعي بخواطري […] ولكن سقوط قطرة ثانية حفزني لأن أحاول استطلاع مصدرها، فأخرجت رأسي من النافذة ونظرت إلى أعلى فوجدت خيطا من الدماء ينساب من فوق سقف عربة القطار التي يطل من فوقها أطراف حذاء عسكري، وأدركت الأمر بسرعة، فهناك جندي مصاب فوق القطار. […] صحت بمن حولي أن يطلبوا من المسؤولين عن القطار إيقافه بأسرع ما يمكن […] أجمع الناس على أن الجندي […] ارتطم رأسه بسقف إحدى القناطر التي يمر تحتها القطار […] قلت […] إنني طبيب […] كان رأس الجندي مهشما […] وكان قد فارق الحياة تماما […] سلمناه إلى الشرطة العسكرية التي بدأت في جرد محتويات ملابسه […] منديل […] ثلاث سجائر، سبعة عشر قرشا، ختم، برقية. […] “احضر حالا … والدك توفي.” […] لم أعد أرى برغم عيني المفتوحتين لا الأشجار ولا البيوت التي كانت تطل عليها نافذة القطار […] أترى هذا الوطن القاسي على أبنائه المخلصين.. أيمكن لهذا الوطن أن ينهض؟ إن الأمر كله مرهون بقليل من الرحمة يمكن أن تنقذ عالما بأكمله.
—أحمد حجي، «مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس»، ١٩٨٨
***
في الشريط أيضا جسور تُمد، وأطباق تنتشر، … وأقول لأمي في محطة المدينة الريفية البعيدة، البعيدة جدا، قولا يستفزها عن “أولئك الغلابة” الذين يستقلون قطارا بائسا، فتلقي علي حقيقة تاريخية وطبقية: حتى وقت قريب كان هذا هو القطار الذي يركبه أهلي، قبل أن تتوظف البنات ويتزوجن وتنقلهن الوظائف والزيجات إلى قطارات أخرى، درجة ثانية، مكيفة. ليست هي التي ينام فيها الركاب فوق الأرفف، وإن كان متسللون يسافرون فوق أسطحها (كالهارب في فيلم آخر). ليست هي التي تسقط أرضية حماماتها فجأة بمن فيها (كما حدث). ليست هي التي تحترق في منتصف الطريق بمئات الركاب “الغلابة” كما حدث. الحقائق المقلقة لا تخلو من دواعٍ لراحة الجبان، والعكس أيضا صحيح.
أتحرك، كما تحرك أهلي، ببطء لكنه أقل من بطئهم. وفي المدن الكبرى أعرف محطات أخرى، وأعرف فيها الكتب، وأصحب فيها الصاحبات. أعود إلى هاء في الطريق إلى إسكندرية وتقول لي بحياء شيئا عن عروق يديّ لأول مرة. وبعد سنوات غير قليلة يطالعني بغرابة شديدة في أيام الثورة منظر المحطة الموحي بالبذخ أثناء “تجديدها” (من الوهلة الأولى ثبت عندي انطباع بأن النجفة العجيبة – وأنا أخاف النجف منذ شاهدت فيلما قديما آخر – هي مقصلة)، ثم أعود إليها من إسكندرية مع تاء التي لحقت بي لتصالحني، قبل أن نفترق وتعود إلى حيها الراقي. كان هذا قطارها الأول هي ربيبة السيارات. لكن ميم وأنا افترقنا قبل أن نركبه. وركبته مع باء إلى إسكندرية أيضا، هي التي يصل القطار في دولة بلادها في موعده بالثانية، الأمر الذي عجزت عن فهمه. وفي الثانية بعد الأخيرة الأخيرة شاهدت وجه سين وقد اتخذ سحنة غريبة وهي تجري بأقصى سرعتها لتلحق به وبي وأنا على بابه يائسا من قدومها. وفي مرة تالية نادرة سنذهب معا جنوبا، لتصحبني في استخراج أوراق الإعفاء النهائي. قطارها الأول إلى الجنوب، هي الصحفية، هي المحظور تجوالها طويلا من الوالد والوالدة. استجوبنا فرد المباحث إذ ما الذي يجعلنا نسافر سوية بدون زواج أو صلة قربى.
***
قبل أن يترك الطفل قريته، وفيما هو يراهق ويتململ ولا يذهب إلى أبعد من الحائط الأصفر ويحوم وحيدا أو مع خليليه الجاهلييْن أو مع قرين أو أقران حول مهارب الخيالات، في القفار الجبلية، على الطريق السريع، في المحطات شبه المهجورة، كان قد عرف بلا شك عن فيلم لوميير الأشهر، وقصة فزع المشاهدين المضحكة وجريهم من أمام القطار المقبل “بسرعة” على الشاشة.
فمن مجلة تأتي بانتظام من الخليج حاملة بقايا التنوير والتطلعات العربية على ورق مصقول مدعوم، عرف أشياء كثيرة عن بلاد لم يزرها، وأفلام لم يرها، وعن كتب لم يقرأها ولو كانت القراءة هي السبيل الوحيد المتاح. رأى بوضياف لثوان وهو يُغتال على التليفزيون متحدثا عن أهمية التعليم في تقدم الأمم المستقلة ومفتتحا فصلا طويلا في الحرب الأهلية. وسمع بوتفليقة في الإذاعة وهو يتحدث عن الإرادة الإلهية لتسييد اللغة العربية. وسمع عن حَسني لكن العولمة لم تُسمعه إياه وأسمعته خالد ورشيد وفضيل وأرته إياهم، وسرعان ما ستسمره ومن حوله ليشاهدوا على الهواء مشاهد الطائرتين المدنيتين والبرجين.
وفي المجلة قرأ نقدا عن السينما الجزائرية جعله يغضب من فيلم «عمر قتلتو» ويشتاق لرؤية «وقائع سنوات الجمر». (بعد حل مشكلة الوصول بنسبة لا بأس بها، سيشاهد الفيلمين أخيرا بينما يحتج جزائريون على التجديد لبوتفليقة، فيحب الأول كثيرا وليس الثاني.)
وفي وعيه، اقترن الوصف المقروء لعرض أفلام لوميير بما يسمعه عن قوافل الفانوس السحري التي عرضت لأهله وجيرانه القرويين هؤلاء، أيام الإصلاح الزراعي، أفلاما منها واحد عن حرق القصب، هب الناس أمامه فزعين من النيران التي اشتعلت فجأة في جدار الجامع، بينما الشباب المتعلمون الذين ذهبوا إلى سينمات العاصمة يضحكون منهم مع الموظفين الغرباء.
لن أنتبه لاسم المدينة الأولى قبل زمن: لا سيوتا. ولن تثبت “الأفلام الأجنبية” اسم الثانية في ذهني، ولن تفعل ذلك فورا المشاهد المذاعة على الهواء: مانهاتن. لكن سيبدأ تاريخ المدينتين والموقعين عندي من هاتين اللحظتين. أما محطة رمسيس/محطة مصر، حيث فصول كاملة ولحظات ومعانٍ لا تنسى من حياتي، من حياتنا، فسيبدأ تاريخها الجديد الآن.
***
Warning: graphic images. First images of the fire at the train station in Egypt. pic.twitter.com/3o5bBxRQpN
السيدة المتأرجحة في مشيتها من أثر الروماتزم بشنطتيها البلاستيكيتين مثل سيدات مصريات لا يحصين رأيناهن وعرفناهن، قبل ثانية واحدة من ركوب طائرة ١١ سبتمبر الخاصة بها. الفتاة التي تنتبه بالكاد إلى ذلك الشيء الرهيب القادم فتتراجع عن حافة الرصيف ببساطة موجعة غير متناسبة إطلاقا في كل مرة نعيد فيها تشغيل اللقطات. الرجل المشتعل هبوطا وصعودا في السلم في فيلم الرعب المصري الملون “الصامت” القصير فيبعد عنه الناس مومئين في ابتعادهم كل مرة إلى مصدر الخسة الحقيقية الكبرى التي أضرمت فيه الحريق، ومصدر النبل الذي تبقى بعد كل هذه العقود مع دلو المياه.
***
هل شم الحاضرون “رائحة الشواء الزكية بشكل مربك” كما وصف صحفي إنجليزي دخوله مدينة لبنانية بُعيد غارة إسرائيلية في الثمانينات—أم كانت في التسعينات؟ لم يقل ذلك في تقاريره الصحفية اليومية، وإنما في كتاب عن الحرب، صدر بعد سنوات. لا يمكن لصحفي أن يقول ذلك في تقريره اليومي. لن يخرج المذيع الإخباري ليقول “وفي قانا شم مراسلنا رائحة شواء زكية بشكل مربك سادت أنحاء المدينة”. سيقول “ويقدر عدد الخسائر بمائتين وستة وعشرين بين قتيل وجريح جراء القصف.” أو شيئا من هذا القبيل.
***
يعرف دارسو فيلم آخر للوميير “شخصيات” الفيلم بالغ القصر، معرفة تجعلها الدراسة حميمة أكثر منها أكاديمية، تجعلهم “أبطالا”. تميز بين من يظهر ويختفي في ثلاث نسخ مختلفة من اللقطات الأيقونية وماذا يفعل في هذه الثواني بسرعة ١٦ إطارا في الثانية: العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة الحصانين؛ العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة الحصان؛ العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة اللا أحصنة.
ويقول واحد من هؤلاء الدارسين، قضى عاما في جمع وتركيب تناسخات هذا المشهد في أفلام تالية عبر القرن التالي:
في ١٨٩٥، كانت كاميرا الأخوين لوميير مصوبة نحو بوابات المصنع؛ إنها طليعة كاميرات المراقبة الكثيرة اليوم والتي تنتج تلقائيا وبشكل أعمى عددا مطلقا من الصور من أجل حراسة حيازة الأملاك. لعل بمقدور المرء بمثل هذه الكاميرات أن يحدد هوية الرجال الأربعة في فيلم روبرت سيودماك Robert Siodmak «القتلة» The Killers (١٩٤٦) والذين يدخلون، في لباس العمال، مصنع برانيط ويسرقون الأموال المخصصة للأجور. في هذا الفيلم يمكن للمرء أن يرى العمال يغادرون المصنع وهم في الحقيقة رجال عصابات. واليوم فإن الكاميرات المخصصة لمراقبة الجدران أو الأسوار أو المخازن أو الأسطح أو الباحات تباع فعليا مزودة بكاشفات رصد حركة وتسجيل أوتوماتيكي بالڤيديو. وهي تتجاهل التغيرات الطارئة في الضوء والتباين، ومبرمجة على تمييز أي حركة هينة من مصدر تهديد فعلي. (يُشغَّل جهاز إنذار عندما يتسلق شخص سورا، ولكن ليس عندما يطير طائر عابرا.)
هناك إذن نظام أرشيفي جديد في الطريق، مكتبة مستقبلية للصور المتحركة، يمكن للمرء أن يبحث فيه ويستعيد عناصر من الصور. وحتى الآن فإن التعريفات الحركية والتكوينية لتتابع من الصور – تلك الأشياء التي تمثل العامل الحاسم في عملية المونتاج الخاصة بتحويل تتابع من الصور إلى فيلم – لم تصنف ولم تُدخَل بعد.
كانت الكاميرا الأولى في تاريخ السينما مصوبة نحو مصنع، ولكن بعد قرن من ذلك يمكن القول إن الفيلم ينجذب بالكاد إلى المصنع بل ينفر منه.
—هارون فاروقي، ١٩٩٥
***
بتقدم الزمن والبشر والصور: تصبح الحياة في مصر هي بالأساس موضوعا (آنيا) للأرشيف، أكثر منها حياة تنسحب تدريجيا منها ومن الصورة أي معالم تذكر للحداثة وتكتفي الحداثة بالتصوير ذاته، وبينما تأكل السلطة نفسها وتأكلنا تحتفظ لنا بذكرانا الحميمة في بطنها، حيث سنرقد ونأتنس بها ممتنين، قد تشهد على نفسها، لكن تقدم الزمن والبشر والصور يتكفل بأن: تصبح الشهادة الفاضحة مادة للترفيه الدموي كما أصبحت الحروب على الهواء مادة إباحية تفرعت إلى پورنوغرافيا تعذيب؛ يئوّل المذيع الكبير الشبه الغريب بمشاهد البرجين على أن الإرهاب متهم معقول، بين فقرات برنامجه الرائج المساهم بقوة في افتراس ذبائح جديدات ظهرن قسرا في سينما الدولة، التي بعد أن استعاضت عن اللومييرات بمخرجي “الانحرافات”، استعاضت عن أولئك بمخرجي المظاهرات، ثم استعاضت عن هؤلاء بجيوش من الكاميرات المصوبة، يستقر أغلبها الآن في أيدينا.
***
من سيحب أحدا الآن ويصحبه إلى هناك؟ من سينجب طفلا الآن؟ من سيطعم طفلا ويسأله أين يدخل القطار؟ من مِن المشاهدين سيغادر مكانه؟ من سيوقف القطار؟
(١) في مصر يشن نقيب الموسيقيين حربا على شاب صاعد النجومية بفضل نوع شعبي إلكتروني سهل الإنتاج، حرب قطع عيش لا مجرد حرب عدم اعتراف باردة، يدعمها المجهود الحربي للجان الرقابة والمهن الفنية لضبط وتمرير ما هو فن وما هو شرعي وما هو صالح وما هو نافع، لتُظهر النظام بصورة عجيبة، ليست معادية للفن والثقافة والحرية بأكثر من معاداتها للسوق والرأسمالية، في بلد يعاني منها حَمُّو وبقية الشباب من التعطل والتخلف الاقتصادي ويُمنعون الآن من اجتراح فرص لأنفسهم وخلق وظائف لغيرهم، وليس بالضرورة ولا بوضوح لأن العمل معارض أو هدام أو منحط، إذ يكفي أن يكون صاحبه غير ملم بالقراءة والكتابة اللازمتين ربما لعضوية اتحاد الكتاب. على غرار روسيا الستالينية وألمانيا الهتلرية ومصر الناصرية يرى هؤلاء نظام بلادهم، رأسمالية (دولة) من نوع أو آخر مخطط مركزيا إلى هذا الحد أو ذاك تحت نظام شمولي يغذي صورة قومية متعاظمة تسير الأمة في ركابها إلى المجد والخلاص أو مجرد البقاء. الفارق الهزلي هنا هو أن السلطات الثقافية لا تعبأ حقا بتحقق أي من هذه الشروط القمعية لتشديد قبضتها: شمولية غير مستوفاة المتطلبات وغير قادرة على المنع الفعلي في عصر الاستنساخ الرقمي ضمن دولة تابعة تماما للأجندة الليبرالية الجديدة.
(٢) في مصر وسوريا بعد ٦٧ تركت الدولة مجالا للفنانين الغاضبين وأعطتهم المؤسسات والأدوات ليصنعوا أفلاما مثلا كما فعل عمر أميرالاي وعطيات الأبنودي وحسام علي (المعرض الزراعي)، على ألا تعرض لجماهير حقا قط. يستغرق الأمر عقودا حتى يدخل الإنترنت وأخرى حتى يتسنى نشرها ثم تداولها (وليس “توزيعها”) عليه، وأبدا فوق ذلك ليكتشفها من لا يعرف بوجود هذا الشيء وهذا العالم، على الأخص بعد تقديم مناسب يحكمه في النهاية مزاج الخوارزميات. تظل في مقبرتها المعروفة بالمركز القومي لتحقق تنويعة غريبة مما أسماه بنيامين “القيمة المعبدية” للعمل الفني في عصور ما قبل الحداثة، مرئية فقط للنخبة المثقفة والغاوين، ولا بأس من أن تعرض من زمن لآخر في نادٍ بل على جمهور رمزي ما ضمن مهرجان مثلا، بلا “قيمة معرضية” حقيقية في زمن الاستنساخ الفائق للآلي.
(٣) في فرنسا ما بعد الكومونة نُبذ مصورون فرنسيون شبان من المؤسسة لأن ما أنتجوه كان بوصف ناقد معاصر “جريمة” في حق الفن (“الشكل”) والأساتذة، لكن أحدا لم يمنعهم من لم الفلوس وتأجير ستوديو وتنظيم ٨ معارض لعقد ونيّف قبل أن ينفرط عقدهم لأسباب تتعلق بالتطور لا التضييق، ولا من الحصول على مقابل (عيني، من دهانات ألوان وقماش لوحات) من شخص وحيد (أب كما كنوه) قبل لوحاتهم ليحاول بيعها. هذه فرنسا المنتصرة إن لم يكن على پروسيا فعلى سلسلة أجيال من الثورات الكبرى استولى آخرها على العاصمة لشهرين، وسيصبح هؤلاء الفنانون المعدمون أساتذة المستقبل غير البعيد (و”الفنانين الرسميين” فيه—غوغان، متنبئا ومتخوفا: مانيه، مونيه، رينوار، …).
(٤) في مصر الآن ليست مصر هي مصر ما بعد ٦٧ المعترفة بهزيمة الحكم العسكري كشرط للتنمية، ولا ما بعد ٣٠ يونيو المطالَبة كدولة من ثورييها الجدد بأن تحارب مرة أخرى (في الداخل هذه المرة، مع استبعاد صوت واحد فقط من المعركة). في مصر تنمو أوهام العظمة الحاكمة الخائفة بجنون ونزعتها للقضاء على كل تهديد محتمل والانتقام من كل تهديد سابق لم ينضم إلى قائمة الأصدقاء، تنمو في فراغ آخذ في أن يصبح كاملا يُسحب منه تباعا كل الهواء والمعنى ولا تحسب القوة التدميرية الصرفة حسابا لغد تجد فيه ما تأكله هي والمؤمنون بها وتنمو كشر ضروري يمت بصلة إلى الحياة الذكية. “وجعانين ميتين”.
المعنى المضبوط للحضارة هو حياة المدن. وفي ذروة الحداثة ظهرت سيمفونيات المدن، أفلام وثائقية أو روائية تحتفي بالمدن في لحظات مجدها وصمودها. طوق غرا المقدس سيمفونية عكسية لمدينة تتقوض من داخلها، لحضارة تنهار. ينعكس التشظي وضيق المساحات على بنائه وعلاقات شخصياته وتعامله مع الحيز. لا يعيب الفيلم سوى الأمثولة الشاخصة بشكل مزعج في قصة الحشرات والنخل الذي يزاحم الأمثولة الطبيعية الأصلية الخاصة بالطريق وضحاياه والمسيرة البشرية. اختيار عدم التعليق مثير في معنى وهوية الفيلم الوثائقي لكنه يختار نصف المسافة بين توثيقية صارمة وروح فيلم بركة التأملية الصرفة.
[كتب هذا النص في الأصل ضمن أنشطة ورشة كراسات السيماتيك، دورة بإشراف ريما المسمار. وهو منشور في العدد الأول – والأخير – من مطبوعة الورشة، كمساهمة وحيدة اختارها المحرر.]
كشخص لم يطأ الأرض خارج بلد ميلاده أصبح فيلم بونيويل لعنة محلقة فوقي. ففي «الملاك الهالك»، يُحبس رجال ونساء بورجوازيون داخل منزل مضيفهم بعد حفلة. الأسباب في الفيلم سوريالية وربما رمزية لو قبل بونيويل فك رموزه. أما حالتي فلا هي سوريالية ولا أنا هؤلاء البورجوازيين.
كانت إجابتي التقليدية على سؤال لِم لَم أسافر هي تارة عدم امتلاكي كلفة السفر، وتارة علاقتي المرتبكة والمبتورة بالمؤسسات التي انتميت إليها والتي لم تسمح أبدا بالوصول إلى نقطة تسفيري على غرار الآخرين. بعد الثورة وعيت فجأة على النقص الفادح في هذه الإجابة. إننا لا نسافر أو لا نسافر كما نريد لأن حريتنا في التنقل مقيدة. أصبح هذا طبيعيا بحيث لم نعد نرى فيه حرية مسلوبة. نتحدث عنه فقط في حالة حظر تجول أو احتلال.
في الماضي سافر الفقراء قبل الأغنياء. لهذا قالوا إن “أرض الله واسعة.” و”الرجل تدب مطرح ما تحب.” و”مطرح ما ترسي دق لها.” السفر الآن ميزة. العالم يغلَق. لكن الأيدي لا تتوقف عن الدق. “لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟” إنهم يدقون الآن فماذا حدث؟ في فيلم نرويجي عن الهجرة غير الشرعية وجرائم الشرف يتسلل مراهق كردي في خزان نفط أيضا، لكنه يصل لأن فن الهروب تطور كثيرا.
في المدينة-الدولة أثينا، عاش المواطنون رفاهية مادية وفكرية وسياسية على حساب المستعمرات والعبيد على الهوامش. الضفة الغربية الفلسطينية هي المدينة العكس. المدينة اللادولة للعبيد المستغنى عن خدماتهم. حيث تتقاطع في أذهاننا مشاهد عبور الطريق السريع وجدار العزل مع قوارب المهاجرين غير الشرعيين الغارقة والتائهة والمتربص بها، والمرعبة في كل الأحوال. تتقاطع المدينة مع صورة السجن وخط الموت حوله، الذي أصبح اسمه مصطلحا لمواعيد تسليم العمل النهائي – ديدلاين.
هل العالم يغلي لأننا لم نعد نقبل أو نملك تحمل هذه الحدود؟ من رسمها ورسم علاقاتها؟ بالتأكيد ليس نحن. كيف نحاصر حصارنا؟
في عالم تتمرد على سكانه الطبيعة، يتماهى السكان مع الحيوانات. يطفرون مثلهم حول الأسوار. كما في «يد إلهية»، حيث يعرف السجين مغمضا أرضه أكثر من الضابط الإسرائيلي – مهما بدا ذلك كليشيهيا إلى حد مضحك أو متغافلا عن حقيقة أن سلطة الاحتلال تملك آلة معرفتها الخاصة الاستعمارية – تعرف هذه الكائنات أرضها كِعَرس الليل، لتخرج من مخابئها وأقفاصها. الشيء الغريزي الحسي الذي تصدره تجربة التسلل الخطرة يقاوم المعنى المهين المتمثل في الحَيْوَنة.
هذا الفيلم العلامة هو بدءا من عنوانه وإعلان مخرجيه الثلاثة الافتتاحي عن رفض الترجمة يسير في مستويين مترابطين لموضوع واحد: حاجز اللغة والاستلاب الإعلامي. فبدلا من تقرير إخباري يختزل في أقل من دقيقتين الساعتين الطويلتين إلى حد العذاب، وبدلا أيضا من وثائقي يلتقط حالات إنسانية من هذا السجن المفتوح على الحدود التونسية-الليبية (وهذه في حد ذاتها معلومة اضطرارية ليست من داخل الفيلم) ويتقصى بشكل بحثي ما وراء هذه الحالة من خروج وانتظار رعايا حكومات مختلفة عالقين، يقدم لنا الصناع ما يبدو للوهلة الأولى مادة خاما تقريبا.
في اللحظة الوحيدة التي يبدأ فيها عامل نيجيري بالكلام عن رأيه في التعايش يشوشر عليه حوار مواز مع عامل آخر. المساواة في الظلم عدل كما تقول الجملة المأثورة؛ إما أن يتكلم الجميع أو لا أحد. (من يمثل من؟)
إننا نعاني (أو المطلوب أن نعاني) أقرب معاناة ممكنة للبشر في الفيلم، ونُحرم من التواصل قدر حرمانهم. لكن ذلك لا يجب أن ينسينا أن التصوير والمونتاج يعنيان الانتقاء حتما. كما أن الصناع يفقدون هم أنفسهم الصبر أحيانا على الصمت فيما يبدو فيسألون رجلا آسيويا عن مصدر الخبز. لكنهم في النهاية ينجحون فيما يرمون إليه من خلال ‘حقيقتهم’ الناقصة بالضرورة.
هذا فيلم تأملي مهم عن الفضاء والسلطة والاتصال (أو بالأحرى انهياره كما تقول أغنية لد زبلن)، بابل لعنة الحضارة هذه المرة لا السماء.
[كتب هذا النص في الأصل ضمن أنشطة ورشة كراسات السيماتيك، دورة بإشراف الطاهر الشيخاوي.]