الحرية التي لدينا

أجسادنا، ومؤسساتنا، والفكر والتعبير، و”المسكوت عنه”

١٤ أبريل/نيسان ١٨٣٨–يكتب كيركغارد في يومياته: “إن الناس قلّما يستخدمون، إن فعلوا، الحرية التي لديهم، حرية الفكر على سبيل المثال؛ ويطالبون بحرية التعبير عوضا عنها.”

وهذا تلخيص بليغ لما كنت أحاول التفكير فيه (والتعبير عنه) في تدوينتي الأولى:

متى أبلغ أحد عن رقابة فإنه إنما يعني الرقابة القابلة للرصد، قمة جبل الجليد الذي كتلته الأساسية هي الرقابة المستترة، وتشمل الرقابة الذاتية. وزد على ذلك أننا نحن المسافرون دائما ما نفقد رؤية المحيط: التعليم–الحرب الشاملة التي تُشن علينا قبل ما يسمى سنوات التكوين بوقت طويل. يمكن بشيء من التبسيط النظر إلى كل معركة خاصة بحرية التعبير على أنها مواجهة بين أولئك الذين نجوا بشكل ما من النظام التعليمي وأولئك الذين لم ينجوا. وهذه القضية النخبوية بصورة متأصلة مكتوب عليها الفشل، وليس سببا هينا وضع النخبة كأقلية، علما بأن هذه ليست النخبة التي تتركز في يدها السلطات الحاكمة للمجتمع، والتي تحبذ مصالحها العليا مثل هذا النظام. وليست هناك حكمة في أن نتوقع مناصرة الجماهير للحرية الفكرية وهم، قبل التلاعب بهم بالإعلام وبالأيديولوجيا السائدة بوقت طويل، مجردون أصلا من ذات الحرية المطلوبة لتعلم تكوين الرأي المستقل وإطلاق العنان للخيال. وفي بلاد متخلفة كمصر، يشيع النظر إلى حرية الرأي والتعبير كمطلب فئوي لا يُعني إلا الأفنديات، الغرباء المغتربين–منفصل عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ولكن ميل أولئك الأفنديات (الحقوقيين، الكتاب التقدميين، إلخ) إلى وضع كل رهاناتهم على مثل هذه المطالب الأساسية ولكن غير الجذرية، إن جاز التعبير، بالحرية الأكاديمية (على مستوى الجامعة) وحرية الصحافة والحقوق الرقمية، يزيد الأمر سوءا بجعل القضية في واقع الأمر تحصيل حاصل، كأن هناك رأي (حر) أو فكر (مستقل) أصلا وكل المطلوب، كل ما هو مهدد، هو فرصة التعبير عنهما. وهي نظرة شخص جاء متأخرا من شأنه على النحو نفسه االدفاع عن الحرية الجنسية لكائنات تعسة تم إخصاؤها وختانها ختانا جائرا في وقت مبكر وأفلت منهم من أفلت.


وخلال هذه السنوات الثماني، من سنوات الثورة إلى سنوات هزيمتها، كنت قد عدت إلى الكتابة بعد انقطاع سنوات، بما في ذلك الكتابة التي لا نلاحظ أو نعترف أنها كتابة، على فيسبوك مثلا. (كما صرت أشياء أخرى إلى جانب ما كنته في حياتي الفقيرة السابقة، كمجرد مترجم وحيد منعزل وموظف، بعيد عن المشاريع الجماعية القريبة إلى روحي وعقلي.)

كان هناك اختلاف في وقت ما حول وصف مدوني تمبلر وسواهم (كل مستخدم غير صامت على أي منبر أو وسيط اجتماعي في الحقيقة) بأنهم كيوريتورز (ناسقين، كما أحب أن أترجم الكلمة)، إلى حد دفع بعض الناسقين ’الحقيقيين‘، المحترفين، بالتوقف، احتجاجا، عن استخدام الكلمة في وصف أنفسهم. وفي هجومه الغاضب والعميق على فيسبوك وثقافته وثقافة حواره ومستخدميه، يفرّق جون رتش بين من يسميهم قراء ومن يسميهم كتّابًا، ويعتبر أن “قضاة محكمة الفيسبوك القساة والجهلة” هؤلاء هم جميعا من القراء، أي، بمفهومه للقراءة، مستهلكين غير مفكرين، وناقلين للأفكار، وتابعين. للتابعين تابعون، ورتش لا يقصر توصيفه على الجماهير ولا على الإنترنت: “كارل ماركس وفردريك نيتشه كاتبان، أما فلاديمير إليتش لينين وأدولف هتلر فهما قارئان”.

يعتقد أندرو ميرفي، وهو على حق، أننا أصبحنا الآن كلنا بلا استثناء ناشرين، ومن باب أولى القول بأننا صرنا كلنا كتّابًا، ليس بمفهوم رتش وإنما بالمعنى المباشر والبسيط، ولا حاجة مرضاة للناسقين والكتاب المحترفين الاستعاضة عن كلمة كتاب بكلمة كتبة. كلنا كتّاب إذن وكلنا ناشرون. أخيرا! لكن المعضلة والمفارقة الكبرى الساخرة أن كل هذا لا يؤدي إلى النتيجة المنطقية أو المنتظرة، إلى أعلى درجات حرية الفكر والتعبير.

فيبدو أن أحدا اليوم في الحقيقة لا يستطيع الكلام، في أي مكان في العالم. وتتفاوت قسوة الحدود بالطبع لكنها تصل في بلد كمصر إلى أردأ مشهد ممكن، ودونما الحاجة إلى النظام الدكتاتوري الرهيب، إن لم يكن بالتعاون معه مباشرة أو دون قصد. ليست هناك بالضرورة رقابة ولا مصادرة محتملة للوحة مفاتيح أو لحساب المستخدم على الشبكة أو عقوبة رسمية. هناك وحش آخر من نوع جديد بملايين الرؤوس يمارس ضغطا لا حدود له لكي يتخذ الفرد أو تتخذ الجماعة أو المؤسسة الموقف ’الصحيح‘، الصحيح تماما، وينتقي ألفاظه بمصفاة محدّثة باستمرار عن طريق تغذيتها بأدق المصطلحات المنقحة والصياغات والبروتوكولات المضبوطة، مع ضرورة النأي باستمرار عن كل من يخرج عن الصراط المستقيم وعن طوع هذا المعسكر أو ذاك، في سياق اقتتال ضارٍ وتقلّب مدوّخ، إن لم يكن للتيارات والتحالفات في البيئات الأكثر تطورا، فللشلل والدوائر ومجموعات فيسبوك وقوائم الأصدقاء.

لكن الجانب المذهل في المفارقة ليس “كيف حدث ذلك وقد صرنا كلنا كتّابا وصارت لدينا كل هذه الأدوات الخاصة بالنشر الذاتي والتعبير والرأي والسجال والاختلاف والتأثير والتغيير؟” فهناك اليوم قوة كبرى صاعدة تتمثل في أجيال وثقافة تقف بحسم غير مسبوق لكل الرجعيات، وليس فقط الرجعيات الشهيرة والمسماة، كالعنصرية والذكورية والطبقية. هناك ضيق هائل متصاعد بكل هذا الوسَخ التاريخي ورغبة شرسة في الخلاص منه. لكن أسوأ ما في الأمر فيما يبدو ليس تعجل الخلاص، وإنما طائفة من الأوهام والادعاءات حول ماهية هذه الرجعية وماهية الخلاص الذي يزعمه هذا المعسكر أو ذاك في فسطاط التغيير والتقدم والتحرر. وفسطاط الرجعية السلطوية (إن كان هناك حقا فرز ممكن بهذا التمييز الواضح والاتساق) يبدو أكثر انسجاما وتوافقا واتحادا و، بالطبع، سلطة وتأثيرا في مجال الحياة الفعلية. ومن المعقول أن نحاجج بأن اقتتال معسكراتنا نحن لا بأس به، فنحن و”دوائرنا” في نهاية المطاف هم أولئك الأحرار، المستقلين، المختلفين، الأحياء بكل ما تعني الحياة من حيوية وتغير وتطور وتساؤل وصراع فكري وتجديد وتجريب ومراجعة نقدية.

أمام كل النكبة داخل النكبة التي يمر بها المجتمع المدني في مصر، متصلا بمجتمع الثقافة المسماة بالمستقلة والبديلة، ودوائر الحقوقيين والنشطاء اليسارية أو ذات الطابع اليساري، لا أملك إلا أن أرى ليس فقط مشاكل الحرية التي قلما تُطرق (لا مشاكلها المألوفة بسبب فجاجة القمع) وإنما بالتحديد مشكلة حرية الفكر وحرية التعبير، وهما اسمان لحريتين دائما ما يأتيان في نفَس واحد وكأنهما شيء واحد، وتكمن وراء هذا أوهام وضلالات عتيدة ومدمرة على المدى الأبعد حول ماهية هذه الحريات وأين نحن منها ولماذا وكيف نحصل عليها.

إن حرية التعبير ليست هي تلك التي صادرتها الحكومات. ليست هي ما تمارسه المواقع المحجوبة. ليست كل ما هو خارج نطاق خطاب الكراهية، ذلك الشيء المطاط والفضفاض والغامض والمحاط بالنفاق والكذب والجهل والانتهازية. ليست ما قرر الرجل الأبيض والمرأة البيضاء أنه حرية التعبير، ولا ما قرره التابع التنويري والتابع النيوليبرالي، ولا ما قررته التابعة الفلسطينية الكويرية الحاصلة على أكثر من دكتوراه في دراسات ما بعد الاستعمار ووضعت لضبطه ما أسمته سياسات تحريرية تشمل ضرورة أن يكون الكلام واضحا ومفهوما ومنتهيا إلى خلاصة وموقف وشعارات وهتافات يمكن اقتباسها وتداولها والإعجاب ببلاغتها واختزالها.

حرية التعبير هي حرية الحديث إلى أنفسنا، بصوت أو دون صوت؛ والحديث، جانبا، إلى من نحب.

حرية التعبير شيء لم يوجد قط، ولم يُستكشف إلا في حدود ضيقة ضيقا مخزيا، وهو خزي يتناسب طرديا مع حجم الادعاءات التي تصرخ بهذه الحرية وتنتصر لها وتدافع عنها. ويبدأ السقوط الأخلاقي والفكري هنا بمجرد أن يبدأ الحديث عن ’نسبية‘ و’حدود‘ هذه الحرية، ولكن أيضا من التنظير الأذكى بكثير حول ’جدليتها‘ كمجرد تهرب كبير وخبيث من العقبة الأفدح: الانفصال الشرطي والبنيوي والمطبَّع تماما بين أفضل نتاجات الفكر النقدي وأكثرها خطرا على الرأسمالية والأبوية والسلطوية والعسكرية وبين ممارسة هذا الفكر على أوسع نطاق ممكن، على الأرض، بين الآخرين ومعهم؛ أن نعيش ونختبر ما نقوله ونفكر فيه ومن ثم نعرفه ونعرف سواه ونحاول (بحرية، بكل حرية!) أن نتلعثم للتعبير عما نراه الآن، باللغة اللفظية المليئة بالعيوب والنقائص والفجوات والكوارث، التعبير عن أنفسنا أولا ثم التواصل مع غيرنا: حرية الفكر أولا، نعم، ولكن، وبالاعتذار من كيركغارد: حرية عيش الفكرة. وهذا جوهر أزمة المعارض، الراديكالي إلى هذا الحد أو ذاك، أو الشخص الغريب عموما، في المجتمع المحافظ المتخلف، المنتصر عليه انتصارا لا يستوعبه المهزوم قط.

وجوهر مهمة المهزومين اليوم، ورهان نجاتهم إن لم يكن انتصارهم النهائي (وهو انتصار تستبعده الأعماق العدمية المظلمة لدى المهزومين ومن هنا تأتي مأساويتهم) هو أن يفكر كل منهم، إن تعذر أن يفكروا حقا معا، في كل شيء، بدءا من تلك الأشياء الجوهرية المسماة ذاتًا وهوية.

أي أن نكون، وننقضّ على كل ما يمنعنا أن نكون، وأن نتحلى بالنزاهة الكافية للاعتراف بما يمنعنا، بينما نحاول، أو نرتاح.

تحرريون في خدمة السلطوية

Rob Lycett © 2015 (“a version of the Game of War as authored by Alice Becker-Ho and Guy Debord, using a map and pieces designed and hand-made by artist Rob Lycett, using a game concept and ruleset originally developed in 1965 by Guy Debord (1931-1994) and as most recently published by Atlas Press in 2006.”)

العقبة الأفدح إذن أمام حرية التعبير هي الانفصال بينها وبين الفعل أو الخبرة. لكن هذه الفكرة في الواقع ناقصة جدا دون اعتبار جانب آخر.

يستخدم التحرريون بلا شك نتاجهم ونتاج بعضهم البعض، ولكن، وحصرا، في إنتاج المزيد من التنظير. أما من يفعل أشياء حقيقية بالتفكير النقدي والنظرية فهم أعداؤها: أهل السلطة المستهدف نظامهم بهذا الفكر الهدام والتحريضي، وممولو هذا الفكر الحر في الوقت نفسه.

خشي حنا بطاطو من استخدام الاحتلال الأمريكي دراساته حول العراق، لكن تشومسكي أنكر دائما استخدام العسكرية الأمريكية أبحاثه اللغوية في تطوير أسلحتها وأنظمتها الحربية، وكشف إيال وايزمان حب الجيش الإسرائيلي لدولوز وغاتاري وديبور بعد الانتفاضة الثانية، على الأخص أفكارهم حول الحيز والموطنة ومحاربة العدو بسلاحه في غرض مغاير.

في عالمنا الناطق بالعربية، ينصب نقدنا للمثقف المعارض على علاقته المباشرة بالسلطة، مقابل ابتعاده عن الناس، كمثقف غير عضوي. ومن هنا الصورة الاستعارية الشهيرة “حظيرة المثقفين”. لكن حظيرة المثقفين في الواقع أوسع وأقل محلية بكثير من تلك الكيانات التي ترعرعت في ظل عبد الناصر ومبارك. حظيرة المثقفين الأغرب والأهم هي تلك التي داخل أسوارها (بما يشمل أسوار الترجمة وأسوار الجايستور وغيرها) يمارس ويطور الأكاديميون والمفكرون من الوزن الثقيل أعتى وأرقى أنواع الفهم والتفكيك والخيال والهجوم المباشر والشامل على حكوماتهم وأنظمتهم بل وأسس ديموقراطيتهم الزائفة، ويتحول كل ذلك بالأساس إلى علف لذكاء التحرريين ووقود لسلاح السلطويين.

يبدو لي أن كل ما نفعله بالثقافة هو استهلاكها، أما هم فيستخدمونها حقا، وضدنا.

ببطء (قاتل) لكن بثقة

نحن إذن نستهلك الثقافة المعارضة ضدهم أما هم فيستخدمونها حقا، وضدنا. ننتجها ونستهلكها ونعيد إنتاجها، وهم يدعمون هذا الإنتاج وفق حاجتهم، ويضعونه موضع التطبيق الفعلي وفق حاجتهم. حاجتهم وحاجة السوق، إحداهما تسبق الأخرى أو رديفة الأخرى.

يطمس هذا الاستنتاج (أو هذا الوعي والشعور الطاغي) الجانب غير المرئي في المشهد المعاصر، وربما كل مشهد سابق. فما أسميته اختصارا ثقافة معارضة هو عند رايمند وليمز نوع واحد من أنواع الثقافة (أي الكلمة التي اعتبرها في قاموسه الشهير إحدى أعقد الكلمات في الإنجليزية). هناك ثقافة معارضة أو مخالفة، وثقافة بديلة، وتنقسمان بدورهما إلى ثقافة بازغة وثقافة مترسبة. هذه الثقافات المناوئة للثقافة السائدة والمهيمنة، أو الخارجة أو المستقلة عنها إلى هذا الحد أو ذاك، تُترك في سلام إلى حين وفق وليمز، إلى أن تمثل تهديدا أو مشروعا يمكن الاستثمار فيه، فيقضى عليها أو تهمش أو، وهو الأغلب في شروط التقدم الصناعي والديموقراطي اللبرالي، تحتوى وتستوعب. يصف البعض ذلك بالتدجين، لكن هذا الوصف يغفل أيضا كيف أن الثقافة السائدة والمهيمنة كما تنزع القوة عما هو مخالف وبديل أو تبطلها، فإن نسبة غير هينة من هذه القوة تنتقل في الحقيقة إليها هي، وتأخذ شكل مرونة متزايدة باستمرار، وجاذبية ورحابة، وتطورا حميدا وليس بالضرورة إيهاما بهذا التطور والتقدم والتحسن.

وسواء كان ما يحدث هو سرقة المهيمن والسائد للمعارضة والاختلاف (وتحويلهما ضدنا) أو استيعابه واحتواؤه لهما وبالتالي استيعابنا واحتواؤنا نحن، بمعنى الابتلاع ولكن أيضا بمعنى الاحتضان بعد تخفيف خطورتنا إن لم يكن تحييدنا، تكون النتيجة هي لا مرئية الثورة وآثارها الحية في كل ما حولنا ونعيشه؛ كل ما طرأ ويطرأ من تغيير عميق في حقوق البشر ومكاسبهم تغييرا ينقلها من شيء لم يكن يخطر بالأمس في البال، ونتشكك نحن (التحرريون) قبل سادة الهيمنة (السلطويين) في تحققه كثمرة للنضال، إلى شيء مسلّم به وينظر إليه باعتباره من ثوابت الحياة، والحضارة، والإنسانية، إلخ. فبدون النضالات والمقاومات والمساهمات العظيمة التي لا تحصى في نقد وهدم وتغيير الأوضاع القائمة وإعادة تخيل العالم بل وإعادة تشكيله جزئيا بناء على هذا التخيل، من المستحيل تصور كيف كنا سنعيش اليوم، برغم كل ما يوهمنا بأن الغد أشبه ما يكون بالبارحة، وأن الطبقات الحاكمة تتصرف وكأن شيئا لم يكن، وأن التخلف (أو الخضوع للسلطوية والهيمنة والتسيُّد) راسخ، وأن التقدم (أو التحرر كما أفضل وصفه، بدلا من استخدام لغة إشارات المرور المضللة هذه) غير حقيقي.

عندما يخاطب ممثل عن جيل جديد من المثقفين أو المتعلمين عموما، في مصر والعالم الناطق بالعربية، ممثلا عن جيل أقدم، بالقول: “صدقني، الأمور تتغير، وستتغير، ولو بعد حين، وعاجلًا أم آجلًا يتبين من كان على الجانب الصحيح والنظيف من التاريخ،” من أين يأتي بهذه الثقة؟ قد يبدو هذا (وهو نوع مشروع من التلقي) بلاغة خطابية وإنشائية أولا وأخيرا، تمنيات، حماسات، محاولة للتأثير والإقناع لكي يرفع الطرف الآخر يده عن هذه أو تلك من الفئات المظلومة. لكن كاتب تلك السطور لا يشك فيما يقوله. في يوم ما، وكما تغير الكثير في واقع المصريين في عقود، سيكون مستوى لا نحلم به اليوم من التحرر والاختلاف الجنسي والغرابة الجنسية (وليس فقط للمثليين والمثليات والعابرين والعابرات) هو واقع المصريين الجديد المألوف إلى حد كبير حتى لو ظل البعض يستهجنه ويحاربه. كثير من أحلام وفانتازيات اليوم الأخرى ستكون واقعا عاديا، يفسح المجال لأحلام وفانتازيات جديدة. ولندع كل حديث الجحيم الأرضي الآن جانبا.

غير أن المشكلة التي لا تسمح بأن يتحول كل هذا التحرر المستمر إلى خلاص حقيقي وفردوس أرضي ليس فقط اللامرئية، ولا الاستيعاب والاحتواء والتهميش والقضاء على المقاومة والاختلاف، ولا الفوضى والتعقيد والتناقض، إنها هذا البطء القاتل.

الأشباح التي بيننا، الحية فينا


هذا هو ما يحدث في قصة قصيرة لبورخس: يزور مرشح في الانتخابات بيتا من بيوت الأهالي ضمن حملة طرق أبواب، تستقبله الأسرة المكونة من ثلاثة أجيال، وخلال وقت الزيارة تظل الجدة الطاعنة في السن حاضرة بأعينها وحواسها وسمعها الواهن ووعيها المشوش، وهذه العجوز هي من يعطي الزيارة معنى خاصا للمرشح كذلك، دونما اهتمام منه بمدى إدراكها لكل ذلك أو مباركتها الحقيقية، فهي أكبر الناخبين في الدائرة سنا. بعد مغادرة الوفد وبعض من تجمعوا للمشاركة والمشاهدة، تموت المرأة التي مرت خلال كل ذلك، وفي صمت ورعب لم تفصح عنه سوى عيناها، باضطراب عنيف وصدمة نفسية لم يدرِ بها أحد الموجودين. كان ما وصل إلى إدراك المرأة أن بلطجي المنطقة القديم، من أيام شبابها الأول، قد وصل أخيرا إليهم بعد تهديد طويل دفع أسرتها آنذاك إلى الاختفاء، وأنهم الآن هالكون بأبشع الطرق لا محالة. لا يعلم بكل ما حدث داخلها في هذه الدقائق إلا الراوي العليم والقارئ.

***

تجتمع امرأة ما برجل ما، في لحظة ما من تاريخ اجتماعهما، ويحدث شيء ما، ويكون شبح من نوع كهذا حاضرا. ويحضر شبح آخر بين كل أسود وأبيض. بين كل كادح وشخص من طبقة أرقى، بين كل محروم من المزايا ومتمتع بها وريث لها. يبعث هذا الشبح ذبذبات متفاوتة الحضور والقوة والتفاعل والتأثير من الخوف أو الحقد أو الكرب أو المرارة أو الغضب أو الارتباك أو ‘الذكرى’ السيئة. وما اجتمع رجل بامرأة، ولا رجل برجل، ولا امرأة بامرأة، ولا إنسان بآخر، إلا وهذا الشبح ثالثهما.

***

شبح البلطجي ليس شبحا صرفا. إن البلطجي حاضر بالفعل أيضا، وليس فقط من خلال ذكراه الأليمة. وهذا الآخر يحتمل أن يكون ملبوسا حقا بالبلطجي، وأن يعود البلطجي إلى أفعاله المعروفة من خلاله، أو أن يكتفي، وهذا هو الأغلب، بأن يكون للنهاية ثالثهما، محدثا أشكالا أعقد من العنف والارتباك وعدم الراحة و، في كل الأحوال، عدم تحقق السلام.

***

اللقاءات الطيبة والجيدة والسعيدة هي استثناء، ونتيجة جهد يكاد لا يرى ولا يلقى التقدير الكافي حتى من صانعيه؛ جهد يطرد الأشباح، مؤقتا، إن لم يكن بشكل مختزل ومعيب، وبالطبع ناقص وهش، يهدد بحضورها الأعنف لاحقا.

***

كل الموتى المظلومين، بما في ذلك المجرمين الكبار الذين تحملوا بمفردهم نصيبا غير منصف من وزر الجريمة، عليهم أن يعودوا لإنهاء الظلم. أن يتكلموا أخيرا، وأن نرى قصتهم، قصتنا، في اكتمالها. ولن تكون هناك ذاكرة أفضل من أخرى. ولن يكون هناك مثقال ذرة من ظلم يمكن إهماله. كل الأشباح التي بيننا، والحية فينا، يجب الإعلان عن حضورها، وحصرها في تعداد السكان، قبل عقد محكمة أرضية كلنا قضاتها يشمل حكمها النهائي قتل جميع الأشباح قتلا رحيما بها وبنا.

***

كل لحظة تمر على الواعين بوجود الأشباح دون أن يكون في فعلهم وقولهم وسكونهم وحركتهم وصمتهم ما يؤدي أو يظنون أنه يؤدي إلى هذا العدل وهذا السلام هو عرقلة للعدالة وتواطؤ مع قوى الحرب وخيانة للذات وهروب من السعادة وخوف من الحرية.

أخلاق القرية الذكية

(١) في مصر يشن نقيب الموسيقيين حربا على شاب صاعد النجومية بفضل نوع شعبي إلكتروني سهل الإنتاج، حرب قطع عيش لا مجرد حرب عدم اعتراف باردة، يدعمها المجهود الحربي للجان الرقابة والمهن الفنية لضبط وتمرير ما هو فن وما هو شرعي وما هو صالح وما هو نافع، لتُظهر النظام بصورة عجيبة، ليست معادية للفن والثقافة والحرية بأكثر من معاداتها للسوق والرأسمالية، في بلد يعاني منها حَمُّو وبقية الشباب من التعطل والتخلف الاقتصادي ويُمنعون الآن من اجتراح فرص لأنفسهم وخلق وظائف لغيرهم، وليس بالضرورة ولا بوضوح لأن العمل معارض أو هدام أو منحط، إذ يكفي أن يكون صاحبه غير ملم بالقراءة والكتابة اللازمتين ربما لعضوية اتحاد الكتاب. على غرار روسيا الستالينية وألمانيا الهتلرية ومصر الناصرية يرى هؤلاء نظام بلادهم، رأسمالية (دولة) من نوع أو آخر مخطط مركزيا إلى هذا الحد أو ذاك تحت نظام شمولي يغذي صورة قومية متعاظمة تسير الأمة في ركابها إلى المجد والخلاص أو مجرد البقاء. الفارق الهزلي هنا هو أن السلطات الثقافية لا تعبأ حقا بتحقق أي من هذه الشروط القمعية لتشديد قبضتها: شمولية غير مستوفاة المتطلبات وغير قادرة على المنع الفعلي في عصر الاستنساخ الرقمي ضمن دولة تابعة تماما للأجندة الليبرالية الجديدة.

(٢) في مصر وسوريا بعد ٦٧ تركت الدولة مجالا للفنانين الغاضبين وأعطتهم المؤسسات والأدوات ليصنعوا أفلاما مثلا كما فعل عمر أميرالاي وعطيات الأبنودي وحسام علي (المعرض الزراعي)، على ألا تعرض لجماهير حقا قط. يستغرق الأمر عقودا حتى يدخل الإنترنت وأخرى حتى يتسنى نشرها ثم تداولها (وليس “توزيعها”) عليه، وأبدا فوق ذلك ليكتشفها من لا يعرف بوجود هذا الشيء وهذا العالم، على الأخص بعد تقديم مناسب يحكمه في النهاية مزاج الخوارزميات. تظل في مقبرتها المعروفة بالمركز القومي لتحقق تنويعة غريبة مما أسماه بنيامين “القيمة المعبدية” للعمل الفني في عصور ما قبل الحداثة، مرئية فقط للنخبة المثقفة والغاوين، ولا بأس من أن تعرض من زمن لآخر في نادٍ بل على جمهور رمزي ما ضمن مهرجان مثلا، بلا “قيمة معرضية” حقيقية في زمن الاستنساخ الفائق للآلي.

(٣) في فرنسا ما بعد الكومونة نُبذ مصورون فرنسيون شبان من المؤسسة لأن ما أنتجوه كان بوصف ناقد معاصر “جريمة” في حق الفن (“الشكل”) والأساتذة، لكن أحدا لم يمنعهم من لم الفلوس وتأجير ستوديو وتنظيم ٨ معارض لعقد ونيّف قبل أن ينفرط عقدهم لأسباب تتعلق بالتطور لا التضييق، ولا من الحصول على مقابل (عيني، من دهانات ألوان وقماش لوحات) من شخص وحيد (أب كما كنوه) قبل لوحاتهم ليحاول بيعها. هذه فرنسا المنتصرة إن لم يكن على پروسيا فعلى سلسلة أجيال من الثورات الكبرى استولى آخرها على العاصمة لشهرين، وسيصبح هؤلاء الفنانون المعدمون أساتذة المستقبل غير البعيد (و”الفنانين الرسميين” فيه—غوغان، متنبئا ومتخوفا: مانيه، مونيه، رينوار، …).

(٤) في مصر الآن ليست مصر هي مصر ما بعد ٦٧ المعترفة بهزيمة الحكم العسكري كشرط للتنمية، ولا ما بعد ٣٠ يونيو المطالَبة كدولة من ثورييها الجدد بأن تحارب مرة أخرى (في الداخل هذه المرة، مع استبعاد صوت واحد فقط من المعركة). في مصر تنمو أوهام العظمة الحاكمة الخائفة بجنون ونزعتها للقضاء على كل تهديد محتمل والانتقام من كل تهديد سابق لم ينضم إلى قائمة الأصدقاء، تنمو في فراغ آخذ في أن يصبح كاملا يُسحب منه تباعا كل الهواء والمعنى ولا تحسب القوة التدميرية الصرفة حسابا لغد تجد فيه ما تأكله هي والمؤمنون بها وتنمو كشر ضروري يمت بصلة إلى الحياة الذكية. “وجعانين ميتين”.

“ما تخافش م الكلب، خاف من صاحبه.”

81owaz9kyvl._sl1500_

في الطريق إلى البنك حارس ڤيللا في الحي الراقي العريق يطرطر في وضح النهار تحت شجرة بحذاء السور فيما بينه وبين السيارة الرباعية الفارهة وهو في زي شركته الموردة للخدمات على الرصيف الخالي من المارة.

في البنك عاملة تصور البطاقات ربما أصغر مني أو في سني أو أكبر، “ربما” لأن جمالها الغابر الرشيق من جراء العمل والحرمان جففه الفقر، في تضاد غير مريح مع أناقة “الياقات البيضاء” الشتوية بشبشبها البلدي وقدميها الوسختين وزيها العلوي البرتقالي الذي يعلن اسم الشركة الموردة للخدمات Arab Group for [جزء من الاسم يغطيه حجابها] Services وتحته هذه العبارة الظريفة: Maybe I l<3ve my job ،التي ربما ترجمها لها أحد الياقات.

فيم وجود ومهانة وجود هذا “الحارس” وهذه “العاملة” مع كل هذه الكلاب والكاميرات المصوبة من الأسوار وماكينات تصوير المستندات؟

أقرأ ما تيسر من كتابات ماركس الاقتصادية “الإنسانية” الأولى. يقول البعض إنه فهم القرن التاسع عشر فهما عميقا لكن الماركسيين عجزوا عن تقديم تفسير أو حل يناسب القرن العشرين. بينما يعتقد البعض أن المشكلة أغرب ربما من ذلك: “فهم” ماركس القرن العشرين والحادي والعشرين بأفضل مما “فهم” التاسع عشر.

الثورة (الفرنسية) مستمرة، ربما؟

في الحديقة التي أعدها بعض السكان لتصبح مساحة مجتمعية، فوضعوا أريكتين ودعوا فنانا لنصب عمل فني عام يمثل بالحديد المطلي بالأسود عاملا على دراجة يحمل على رأسه “قفص عيش”، يطلب مني فرد مباحث بدماثة، بعد أن استجوبني وكشف على بطاقتي، أن أغادر لأن الجلوس هنا ممنوع، في هذا المكان المحاط بالسفارات. عدا هذه الحراسات لم أر الشرطة هنا إلا في حملة ضخمة مدججة بأسلحة جديدة لإزالة مشاريع تجارية متناهية الصغر لا تكاد ترى بالعين المجردة في الطريق الواسع الخالي.

في حديقة أخرى مهداة من عائلة أعمال، على أنقاض الحديقة الأصلية التي كانت تستر المراهقين والباحثين عن خلوة حسية وربما متعاطي المخدرات، شباب وربما شابات صغار من أحياء فقيرة جاؤوا للفرجة والاختلاس ومضايقة الآخرين، لا من “المغتربين” ولا ممن يبدو عليهم أنهم من أهل الحي، وإنما على الأخص من الشبان والشابات الصغار الفقراء من أفريقيا السوداء، اللاجئين ربما.

إنه بالرغم من ذلك حي رائع بالتأكيد، ليس فقط للدراجين وأصحاب الكلاب. حي يهرب إليه “القادرون” من الراغبين في اختلاس يطول أو يقصر، في شيء من الحراك وفي شيء من الحرية، وأشياء أخرى جيدة ومتناهية الصغر.