القطار يدخل المحطة

في قرية بعيدة، بعيدة جدا… سألت الأم طفلها وهي تطعمه، وسألت الخالة طفل أختها وهي تطعمه: أين يدخل القطار؟

يدخل السرير؟

إنه سؤال بلاغي. يبتهج إزاءه الطفل فاغرا فاه الغض للملعقة القطار. يتغذى. يكبر. ولعله يفكر في القطار، وفي ماهية هذا القطار. يربطه بالصوت الآتي كل بضع ساعات من حدود القرية؛ عند محاكاته بالفم الملتصق بغتة بأذن الأم أو الخالة، بالمرح الشرير لطفل، صوت مختزل بشدة وطفولي ليس جهوريا ولا مفزعا حقا كما يراد به، لقطار ليس أكثر من دمية مسلية.

يكبر وبعد قليل يقترن القطار بأشياء أخرى غير مرحة. كما في أغنية عربية لخضر العطار تعلن بعد موال قصير “كرهت صوتك يا قطار / كرهت ساعات الرحيل”. إنه لا يفهم النوبية ولا يصله كل غناء الحلفاويات الثلاث المعروفات بالبلابل، لكي يتأكد القطار كعلامة حميمة على الغربة والتهجير على الجانب الآخر أيضا من الحدود. ولا يصله أبدا صوت قطار حمزة الذي يفككه إلى إيقاعات تتحدث ما يشبه النوبية، فيما صار وفق اسمه العالمي “بطاقة معايدة“.

وبأشياء أقل مرحا: فشريط السكة الحديد طويل بطول البلاد، يصل إلى مصر وإلى البحر ويمر بكل الصعيد، غير مستور بسور ولا مزلقان، وقضبانه قد تنغلق على من يمر مشيا كما رأى في “فيلم عربي” قديم، أما القطار نفسه فيدهس، يطحن، يحطم، هذا المار الشارد كما سمع ممن رأوا الجثث والأشلاء، يكون بعيدا وفجأة يمر فيك، في لحمك المتطاير. لعل بعض العظام وسط القمامة الغابرة وعظام الحيوانات في ثنايا السكة في مراحلها الأقل عمرانا هي بعض عظام هؤلاء المارة العالقين هناك للأبد.

يكبر، وتصغر البلاد، والذات. ينفطم الطفل مرات ومرات ويدرك في إحداها أن كل أطفال البلاد قيل لهم: أين يدخل القطار؟

تصبح البلاد شريطا طويلا من وراء الزجاج، من حقول وبيوت طين وعمائر أسمنت والجبال من ورائها ونيل يطل، وصحراء تطل، وشمس تروح وتجيء، وترع، وأمراض، وفقر كثير، وحزن غريب ورومانسية وحب لعين لما سرعان ما سيصبح اسمه الوطن والحبيبة والأم، ومن ورائه الصورة اللعينة. وعلى مدار هذه السكة روحة وجيئة، على مدار السنين، لن أترجل أبدا في نقطة بين مدن وقرى أقصى الجنوب مسقط رأسي وبين عاصمة البلاد الأولى والثانية، إلا عندما يقذف بي نظام التعليم إلى الجنوب الأقل قصاءً.

***

سقطت قطرة من الدم على يدي التي كنت متكئا بها على نافذة القطار.. ولم ألق بالا للأمر أول مرة، فمسحتها وواصلت استغراقي واستمتاعي بخواطري […] ولكن سقوط قطرة ثانية حفزني لأن أحاول استطلاع مصدرها، فأخرجت رأسي من النافذة ونظرت إلى أعلى فوجدت خيطا من الدماء ينساب من فوق سقف عربة القطار التي يطل من فوقها أطراف حذاء عسكري، وأدركت الأمر بسرعة، فهناك جندي مصاب فوق القطار. […] صحت بمن حولي أن يطلبوا من المسؤولين عن القطار إيقافه بأسرع ما يمكن […] أجمع الناس على أن الجندي […] ارتطم رأسه بسقف إحدى القناطر التي يمر تحتها القطار […] قلت […] إنني طبيب […] كان رأس الجندي مهشما […] وكان قد فارق الحياة تماما […] سلمناه إلى الشرطة العسكرية التي بدأت في جرد محتويات ملابسه […] منديل […] ثلاث سجائر، سبعة عشر قرشا، ختم، برقية. […] “احضر حالا … والدك توفي.” […] لم أعد أرى برغم عيني المفتوحتين لا الأشجار ولا البيوت التي كانت تطل عليها نافذة القطار […] أترى هذا الوطن القاسي على أبنائه المخلصين.. أيمكن لهذا الوطن أن ينهض؟ إن الأمر كله مرهون بقليل من الرحمة يمكن أن تنقذ عالما بأكمله.

—أحمد حجي، «مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس»، ١٩٨٨

***

في الشريط أيضا جسور تُمد، وأطباق تنتشر، … وأقول لأمي في محطة المدينة الريفية البعيدة، البعيدة جدا، قولا يستفزها عن “أولئك الغلابة” الذين يستقلون قطارا بائسا، فتلقي علي حقيقة تاريخية وطبقية: حتى وقت قريب كان هذا هو القطار الذي يركبه أهلي، قبل أن تتوظف البنات ويتزوجن وتنقلهن الوظائف والزيجات إلى قطارات أخرى، درجة ثانية، مكيفة. ليست هي التي ينام فيها الركاب فوق الأرفف، وإن كان متسللون يسافرون فوق أسطحها (كالهارب في فيلم آخر). ليست هي التي تسقط أرضية حماماتها فجأة بمن فيها (كما حدث). ليست هي التي تحترق في منتصف الطريق بمئات الركاب “الغلابة” كما حدث. الحقائق المقلقة لا تخلو من دواعٍ لراحة الجبان، والعكس أيضا صحيح.

أتحرك، كما تحرك أهلي، ببطء لكنه أقل من بطئهم. وفي المدن الكبرى أعرف محطات أخرى، وأعرف فيها الكتب، وأصحب فيها الصاحبات. أعود إلى هاء في الطريق إلى إسكندرية وتقول لي بحياء شيئا عن عروق يديّ لأول مرة. وبعد سنوات غير قليلة يطالعني بغرابة شديدة في أيام الثورة منظر المحطة الموحي بالبذخ أثناء “تجديدها” (من الوهلة الأولى ثبت عندي انطباع بأن النجفة العجيبة – وأنا أخاف النجف منذ شاهدت فيلما قديما آخر – هي مقصلة)، ثم أعود إليها من إسكندرية مع تاء التي لحقت بي لتصالحني، قبل أن نفترق وتعود إلى حيها الراقي. كان هذا قطارها الأول هي ربيبة السيارات. لكن ميم وأنا افترقنا قبل أن نركبه. وركبته مع باء إلى إسكندرية أيضا، هي التي يصل القطار في دولة بلادها في موعده بالثانية، الأمر الذي عجزت عن فهمه. وفي الثانية بعد الأخيرة الأخيرة شاهدت وجه سين وقد اتخذ سحنة غريبة وهي تجري بأقصى سرعتها لتلحق به وبي وأنا على بابه يائسا من قدومها. وفي مرة تالية نادرة سنذهب معا جنوبا، لتصحبني في استخراج أوراق الإعفاء النهائي. قطارها الأول إلى الجنوب، هي الصحفية، هي المحظور تجوالها طويلا من الوالد والوالدة. استجوبنا فرد المباحث إذ ما الذي يجعلنا نسافر سوية بدون زواج أو صلة قربى.

***

قبل أن يترك الطفل قريته، وفيما هو يراهق ويتململ ولا يذهب إلى أبعد من الحائط الأصفر ويحوم وحيدا أو مع خليليه الجاهلييْن أو مع قرين أو أقران حول مهارب الخيالات، في القفار الجبلية، على الطريق السريع، في المحطات شبه المهجورة، كان قد عرف بلا شك عن فيلم لوميير الأشهر، وقصة فزع المشاهدين المضحكة وجريهم من أمام القطار المقبل “بسرعة” على الشاشة.

فمن مجلة تأتي بانتظام من الخليج حاملة بقايا التنوير والتطلعات العربية على ورق مصقول مدعوم، عرف أشياء كثيرة عن بلاد لم يزرها، وأفلام لم يرها، وعن كتب لم يقرأها ولو كانت القراءة هي السبيل الوحيد المتاح. رأى بوضياف لثوان وهو يُغتال على التليفزيون متحدثا عن أهمية التعليم في تقدم الأمم المستقلة ومفتتحا فصلا طويلا في الحرب الأهلية. وسمع بوتفليقة في الإذاعة وهو يتحدث عن الإرادة الإلهية لتسييد اللغة العربية. وسمع عن حَسني لكن العولمة لم تُسمعه إياه وأسمعته خالد ورشيد وفضيل وأرته إياهم، وسرعان ما ستسمره ومن حوله ليشاهدوا على الهواء مشاهد الطائرتين المدنيتين والبرجين.

وفي المجلة قرأ نقدا عن السينما الجزائرية جعله يغضب من فيلم «عمر قتلتو» ويشتاق لرؤية «وقائع سنوات الجمر». (بعد حل مشكلة الوصول بنسبة لا بأس بها، سيشاهد الفيلمين أخيرا بينما يحتج جزائريون على التجديد لبوتفليقة، فيحب الأول كثيرا وليس الثاني.)

وفي وعيه، اقترن الوصف المقروء لعرض أفلام لوميير بما يسمعه عن قوافل الفانوس السحري التي عرضت لأهله وجيرانه القرويين هؤلاء، أيام الإصلاح الزراعي، أفلاما منها واحد عن حرق القصب، هب الناس أمامه فزعين من النيران التي اشتعلت فجأة في جدار الجامع، بينما الشباب المتعلمون الذين ذهبوا إلى سينمات العاصمة يضحكون منهم مع الموظفين الغرباء.

لن أنتبه لاسم المدينة الأولى قبل زمن: لا سيوتا. ولن تثبت “الأفلام الأجنبية” اسم الثانية في ذهني، ولن تفعل ذلك فورا المشاهد المذاعة على الهواء: مانهاتن. لكن سيبدأ تاريخ المدينتين والموقعين عندي من هاتين اللحظتين. أما محطة رمسيس/محطة مصر، حيث فصول كاملة ولحظات ومعانٍ لا تنسى من حياتي، من حياتنا، فسيبدأ تاريخها الجديد الآن.

***

السيدة المتأرجحة في مشيتها من أثر الروماتزم بشنطتيها البلاستيكيتين مثل سيدات مصريات لا يحصين رأيناهن وعرفناهن، قبل ثانية واحدة من ركوب طائرة ١١ سبتمبر الخاصة بها. الفتاة التي تنتبه بالكاد إلى ذلك الشيء الرهيب القادم فتتراجع عن حافة الرصيف ببساطة موجعة غير متناسبة إطلاقا في كل مرة نعيد فيها تشغيل اللقطات. الرجل المشتعل هبوطا وصعودا في السلم في فيلم الرعب المصري الملون “الصامت” القصير فيبعد عنه الناس مومئين في ابتعادهم كل مرة إلى مصدر الخسة الحقيقية الكبرى التي أضرمت فيه الحريق، ومصدر النبل الذي تبقى بعد كل هذه العقود مع دلو المياه.

***

هل شم الحاضرون “رائحة الشواء الزكية بشكل مربك” كما وصف صحفي إنجليزي دخوله مدينة لبنانية بُعيد غارة إسرائيلية في الثمانينات—أم كانت في التسعينات؟ لم يقل ذلك في تقاريره الصحفية اليومية، وإنما في كتاب عن الحرب، صدر بعد سنوات. لا يمكن لصحفي أن يقول ذلك في تقريره اليومي. لن يخرج المذيع الإخباري ليقول “وفي قانا شم مراسلنا رائحة شواء زكية بشكل مربك سادت أنحاء المدينة”. سيقول “ويقدر عدد الخسائر بمائتين وستة وعشرين بين قتيل وجريح جراء القصف.” أو شيئا من هذا القبيل.

***

TerrsoTrainGIF

يعرف دارسو فيلم آخر للوميير “شخصيات” الفيلم بالغ القصر، معرفة تجعلها الدراسة حميمة أكثر منها أكاديمية، تجعلهم “أبطالا”. تميز بين من يظهر ويختفي في ثلاث نسخ مختلفة من اللقطات الأيقونية وماذا يفعل في هذه الثواني بسرعة ١٦ إطارا في الثانية: العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة الحصانين؛ العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة الحصان؛ العمال يغادرون مصنع لوميير في ليون-نسخة اللا أحصنة.

ويقول واحد من هؤلاء الدارسين، قضى عاما في جمع وتركيب تناسخات هذا المشهد في أفلام تالية عبر القرن التالي:

في ١٨٩٥، كانت كاميرا الأخوين لوميير مصوبة نحو بوابات المصنع؛ إنها طليعة كاميرات المراقبة الكثيرة اليوم والتي تنتج تلقائيا وبشكل أعمى عددا مطلقا من الصور من أجل حراسة حيازة الأملاك. لعل بمقدور المرء بمثل هذه الكاميرات أن يحدد هوية الرجال الأربعة في فيلم روبرت سيودماك Robert Siodmak «القتلة» The Killers (١٩٤٦) والذين يدخلون، في لباس العمال، مصنع برانيط ويسرقون الأموال المخصصة للأجور. في هذا الفيلم يمكن للمرء أن يرى العمال يغادرون المصنع وهم في الحقيقة رجال عصابات. واليوم فإن الكاميرات المخصصة لمراقبة الجدران أو الأسوار أو المخازن أو الأسطح أو الباحات تباع فعليا مزودة بكاشفات رصد حركة وتسجيل أوتوماتيكي بالڤيديو. وهي تتجاهل التغيرات الطارئة في الضوء والتباين، ومبرمجة على تمييز أي حركة هينة من مصدر تهديد فعلي. (يُشغَّل جهاز إنذار عندما يتسلق شخص سورا، ولكن ليس عندما يطير طائر عابرا.)

هناك إذن نظام أرشيفي جديد في الطريق، مكتبة مستقبلية للصور المتحركة، يمكن للمرء أن يبحث فيه ويستعيد عناصر من الصور. وحتى الآن فإن التعريفات الحركية والتكوينية لتتابع من الصور – تلك الأشياء التي تمثل العامل الحاسم في عملية المونتاج الخاصة بتحويل تتابع من الصور إلى فيلم – لم تصنف ولم تُدخَل بعد.

كانت الكاميرا الأولى في تاريخ السينما مصوبة نحو مصنع، ولكن بعد قرن من ذلك يمكن القول إن الفيلم ينجذب بالكاد إلى المصنع بل ينفر منه.

—هارون فاروقي، ١٩٩٥

***

بتقدم الزمن والبشر والصور: تصبح الحياة في مصر هي بالأساس موضوعا (آنيا) للأرشيف، أكثر منها حياة تنسحب تدريجيا منها ومن الصورة أي معالم تذكر للحداثة وتكتفي الحداثة بالتصوير ذاته، وبينما تأكل السلطة نفسها وتأكلنا تحتفظ لنا بذكرانا الحميمة في بطنها، حيث سنرقد ونأتنس بها ممتنين، قد تشهد على نفسها، لكن تقدم الزمن والبشر والصور يتكفل بأن: تصبح الشهادة الفاضحة مادة للترفيه الدموي كما أصبحت الحروب على الهواء مادة إباحية تفرعت إلى پورنوغرافيا تعذيب؛ يئوّل المذيع الكبير الشبه الغريب بمشاهد البرجين على أن الإرهاب متهم معقول، بين فقرات برنامجه الرائج المساهم بقوة في افتراس ذبائح جديدات ظهرن قسرا في سينما الدولة، التي بعد أن استعاضت عن اللومييرات بمخرجي “الانحرافات”، استعاضت عن أولئك بمخرجي المظاهرات، ثم استعاضت عن هؤلاء بجيوش من الكاميرات المصوبة، يستقر أغلبها الآن في أيدينا.

***

من سيحب أحدا الآن ويصحبه إلى هناك؟ من سينجب طفلا الآن؟ من سيطعم طفلا ويسأله أين يدخل القطار؟ من مِن المشاهدين سيغادر مكانه؟ من سيوقف القطار؟