الحرية التي لدينا

أجسادنا، ومؤسساتنا، والفكر والتعبير، و”المسكوت عنه”

١٤ أبريل/نيسان ١٨٣٨–يكتب كيركغارد في يومياته: “إن الناس قلّما يستخدمون، إن فعلوا، الحرية التي لديهم، حرية الفكر على سبيل المثال؛ ويطالبون بحرية التعبير عوضا عنها.”

وهذا تلخيص بليغ لما كنت أحاول التفكير فيه (والتعبير عنه) في تدوينتي الأولى:

متى أبلغ أحد عن رقابة فإنه إنما يعني الرقابة القابلة للرصد، قمة جبل الجليد الذي كتلته الأساسية هي الرقابة المستترة، وتشمل الرقابة الذاتية. وزد على ذلك أننا نحن المسافرون دائما ما نفقد رؤية المحيط: التعليم–الحرب الشاملة التي تُشن علينا قبل ما يسمى سنوات التكوين بوقت طويل. يمكن بشيء من التبسيط النظر إلى كل معركة خاصة بحرية التعبير على أنها مواجهة بين أولئك الذين نجوا بشكل ما من النظام التعليمي وأولئك الذين لم ينجوا. وهذه القضية النخبوية بصورة متأصلة مكتوب عليها الفشل، وليس سببا هينا وضع النخبة كأقلية، علما بأن هذه ليست النخبة التي تتركز في يدها السلطات الحاكمة للمجتمع، والتي تحبذ مصالحها العليا مثل هذا النظام. وليست هناك حكمة في أن نتوقع مناصرة الجماهير للحرية الفكرية وهم، قبل التلاعب بهم بالإعلام وبالأيديولوجيا السائدة بوقت طويل، مجردون أصلا من ذات الحرية المطلوبة لتعلم تكوين الرأي المستقل وإطلاق العنان للخيال. وفي بلاد متخلفة كمصر، يشيع النظر إلى حرية الرأي والتعبير كمطلب فئوي لا يُعني إلا الأفنديات، الغرباء المغتربين–منفصل عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ولكن ميل أولئك الأفنديات (الحقوقيين، الكتاب التقدميين، إلخ) إلى وضع كل رهاناتهم على مثل هذه المطالب الأساسية ولكن غير الجذرية، إن جاز التعبير، بالحرية الأكاديمية (على مستوى الجامعة) وحرية الصحافة والحقوق الرقمية، يزيد الأمر سوءا بجعل القضية في واقع الأمر تحصيل حاصل، كأن هناك رأي (حر) أو فكر (مستقل) أصلا وكل المطلوب، كل ما هو مهدد، هو فرصة التعبير عنهما. وهي نظرة شخص جاء متأخرا من شأنه على النحو نفسه االدفاع عن الحرية الجنسية لكائنات تعسة تم إخصاؤها وختانها ختانا جائرا في وقت مبكر وأفلت منهم من أفلت.


وخلال هذه السنوات الثماني، من سنوات الثورة إلى سنوات هزيمتها، كنت قد عدت إلى الكتابة بعد انقطاع سنوات، بما في ذلك الكتابة التي لا نلاحظ أو نعترف أنها كتابة، على فيسبوك مثلا. (كما صرت أشياء أخرى إلى جانب ما كنته في حياتي الفقيرة السابقة، كمجرد مترجم وحيد منعزل وموظف، بعيد عن المشاريع الجماعية القريبة إلى روحي وعقلي.)

كان هناك اختلاف في وقت ما حول وصف مدوني تمبلر وسواهم (كل مستخدم غير صامت على أي منبر أو وسيط اجتماعي في الحقيقة) بأنهم كيوريتورز (ناسقين، كما أحب أن أترجم الكلمة)، إلى حد دفع بعض الناسقين ’الحقيقيين‘، المحترفين، بالتوقف، احتجاجا، عن استخدام الكلمة في وصف أنفسهم. وفي هجومه الغاضب والعميق على فيسبوك وثقافته وثقافة حواره ومستخدميه، يفرّق جون رتش بين من يسميهم قراء ومن يسميهم كتّابًا، ويعتبر أن “قضاة محكمة الفيسبوك القساة والجهلة” هؤلاء هم جميعا من القراء، أي، بمفهومه للقراءة، مستهلكين غير مفكرين، وناقلين للأفكار، وتابعين. للتابعين تابعون، ورتش لا يقصر توصيفه على الجماهير ولا على الإنترنت: “كارل ماركس وفردريك نيتشه كاتبان، أما فلاديمير إليتش لينين وأدولف هتلر فهما قارئان”.

يعتقد أندرو ميرفي، وهو على حق، أننا أصبحنا الآن كلنا بلا استثناء ناشرين، ومن باب أولى القول بأننا صرنا كلنا كتّابًا، ليس بمفهوم رتش وإنما بالمعنى المباشر والبسيط، ولا حاجة مرضاة للناسقين والكتاب المحترفين الاستعاضة عن كلمة كتاب بكلمة كتبة. كلنا كتّاب إذن وكلنا ناشرون. أخيرا! لكن المعضلة والمفارقة الكبرى الساخرة أن كل هذا لا يؤدي إلى النتيجة المنطقية أو المنتظرة، إلى أعلى درجات حرية الفكر والتعبير.

فيبدو أن أحدا اليوم في الحقيقة لا يستطيع الكلام، في أي مكان في العالم. وتتفاوت قسوة الحدود بالطبع لكنها تصل في بلد كمصر إلى أردأ مشهد ممكن، ودونما الحاجة إلى النظام الدكتاتوري الرهيب، إن لم يكن بالتعاون معه مباشرة أو دون قصد. ليست هناك بالضرورة رقابة ولا مصادرة محتملة للوحة مفاتيح أو لحساب المستخدم على الشبكة أو عقوبة رسمية. هناك وحش آخر من نوع جديد بملايين الرؤوس يمارس ضغطا لا حدود له لكي يتخذ الفرد أو تتخذ الجماعة أو المؤسسة الموقف ’الصحيح‘، الصحيح تماما، وينتقي ألفاظه بمصفاة محدّثة باستمرار عن طريق تغذيتها بأدق المصطلحات المنقحة والصياغات والبروتوكولات المضبوطة، مع ضرورة النأي باستمرار عن كل من يخرج عن الصراط المستقيم وعن طوع هذا المعسكر أو ذاك، في سياق اقتتال ضارٍ وتقلّب مدوّخ، إن لم يكن للتيارات والتحالفات في البيئات الأكثر تطورا، فللشلل والدوائر ومجموعات فيسبوك وقوائم الأصدقاء.

لكن الجانب المذهل في المفارقة ليس “كيف حدث ذلك وقد صرنا كلنا كتّابا وصارت لدينا كل هذه الأدوات الخاصة بالنشر الذاتي والتعبير والرأي والسجال والاختلاف والتأثير والتغيير؟” فهناك اليوم قوة كبرى صاعدة تتمثل في أجيال وثقافة تقف بحسم غير مسبوق لكل الرجعيات، وليس فقط الرجعيات الشهيرة والمسماة، كالعنصرية والذكورية والطبقية. هناك ضيق هائل متصاعد بكل هذا الوسَخ التاريخي ورغبة شرسة في الخلاص منه. لكن أسوأ ما في الأمر فيما يبدو ليس تعجل الخلاص، وإنما طائفة من الأوهام والادعاءات حول ماهية هذه الرجعية وماهية الخلاص الذي يزعمه هذا المعسكر أو ذاك في فسطاط التغيير والتقدم والتحرر. وفسطاط الرجعية السلطوية (إن كان هناك حقا فرز ممكن بهذا التمييز الواضح والاتساق) يبدو أكثر انسجاما وتوافقا واتحادا و، بالطبع، سلطة وتأثيرا في مجال الحياة الفعلية. ومن المعقول أن نحاجج بأن اقتتال معسكراتنا نحن لا بأس به، فنحن و”دوائرنا” في نهاية المطاف هم أولئك الأحرار، المستقلين، المختلفين، الأحياء بكل ما تعني الحياة من حيوية وتغير وتطور وتساؤل وصراع فكري وتجديد وتجريب ومراجعة نقدية.

أمام كل النكبة داخل النكبة التي يمر بها المجتمع المدني في مصر، متصلا بمجتمع الثقافة المسماة بالمستقلة والبديلة، ودوائر الحقوقيين والنشطاء اليسارية أو ذات الطابع اليساري، لا أملك إلا أن أرى ليس فقط مشاكل الحرية التي قلما تُطرق (لا مشاكلها المألوفة بسبب فجاجة القمع) وإنما بالتحديد مشكلة حرية الفكر وحرية التعبير، وهما اسمان لحريتين دائما ما يأتيان في نفَس واحد وكأنهما شيء واحد، وتكمن وراء هذا أوهام وضلالات عتيدة ومدمرة على المدى الأبعد حول ماهية هذه الحريات وأين نحن منها ولماذا وكيف نحصل عليها.

إن حرية التعبير ليست هي تلك التي صادرتها الحكومات. ليست هي ما تمارسه المواقع المحجوبة. ليست كل ما هو خارج نطاق خطاب الكراهية، ذلك الشيء المطاط والفضفاض والغامض والمحاط بالنفاق والكذب والجهل والانتهازية. ليست ما قرر الرجل الأبيض والمرأة البيضاء أنه حرية التعبير، ولا ما قرره التابع التنويري والتابع النيوليبرالي، ولا ما قررته التابعة الفلسطينية الكويرية الحاصلة على أكثر من دكتوراه في دراسات ما بعد الاستعمار ووضعت لضبطه ما أسمته سياسات تحريرية تشمل ضرورة أن يكون الكلام واضحا ومفهوما ومنتهيا إلى خلاصة وموقف وشعارات وهتافات يمكن اقتباسها وتداولها والإعجاب ببلاغتها واختزالها.

حرية التعبير هي حرية الحديث إلى أنفسنا، بصوت أو دون صوت؛ والحديث، جانبا، إلى من نحب.

حرية التعبير شيء لم يوجد قط، ولم يُستكشف إلا في حدود ضيقة ضيقا مخزيا، وهو خزي يتناسب طرديا مع حجم الادعاءات التي تصرخ بهذه الحرية وتنتصر لها وتدافع عنها. ويبدأ السقوط الأخلاقي والفكري هنا بمجرد أن يبدأ الحديث عن ’نسبية‘ و’حدود‘ هذه الحرية، ولكن أيضا من التنظير الأذكى بكثير حول ’جدليتها‘ كمجرد تهرب كبير وخبيث من العقبة الأفدح: الانفصال الشرطي والبنيوي والمطبَّع تماما بين أفضل نتاجات الفكر النقدي وأكثرها خطرا على الرأسمالية والأبوية والسلطوية والعسكرية وبين ممارسة هذا الفكر على أوسع نطاق ممكن، على الأرض، بين الآخرين ومعهم؛ أن نعيش ونختبر ما نقوله ونفكر فيه ومن ثم نعرفه ونعرف سواه ونحاول (بحرية، بكل حرية!) أن نتلعثم للتعبير عما نراه الآن، باللغة اللفظية المليئة بالعيوب والنقائص والفجوات والكوارث، التعبير عن أنفسنا أولا ثم التواصل مع غيرنا: حرية الفكر أولا، نعم، ولكن، وبالاعتذار من كيركغارد: حرية عيش الفكرة. وهذا جوهر أزمة المعارض، الراديكالي إلى هذا الحد أو ذاك، أو الشخص الغريب عموما، في المجتمع المحافظ المتخلف، المنتصر عليه انتصارا لا يستوعبه المهزوم قط.

وجوهر مهمة المهزومين اليوم، ورهان نجاتهم إن لم يكن انتصارهم النهائي (وهو انتصار تستبعده الأعماق العدمية المظلمة لدى المهزومين ومن هنا تأتي مأساويتهم) هو أن يفكر كل منهم، إن تعذر أن يفكروا حقا معا، في كل شيء، بدءا من تلك الأشياء الجوهرية المسماة ذاتًا وهوية.

أي أن نكون، وننقضّ على كل ما يمنعنا أن نكون، وأن نتحلى بالنزاهة الكافية للاعتراف بما يمنعنا، بينما نحاول، أو نرتاح.

تحرريون في خدمة السلطوية

Rob Lycett © 2015 (“a version of the Game of War as authored by Alice Becker-Ho and Guy Debord, using a map and pieces designed and hand-made by artist Rob Lycett, using a game concept and ruleset originally developed in 1965 by Guy Debord (1931-1994) and as most recently published by Atlas Press in 2006.”)

العقبة الأفدح إذن أمام حرية التعبير هي الانفصال بينها وبين الفعل أو الخبرة. لكن هذه الفكرة في الواقع ناقصة جدا دون اعتبار جانب آخر.

يستخدم التحرريون بلا شك نتاجهم ونتاج بعضهم البعض، ولكن، وحصرا، في إنتاج المزيد من التنظير. أما من يفعل أشياء حقيقية بالتفكير النقدي والنظرية فهم أعداؤها: أهل السلطة المستهدف نظامهم بهذا الفكر الهدام والتحريضي، وممولو هذا الفكر الحر في الوقت نفسه.

خشي حنا بطاطو من استخدام الاحتلال الأمريكي دراساته حول العراق، لكن تشومسكي أنكر دائما استخدام العسكرية الأمريكية أبحاثه اللغوية في تطوير أسلحتها وأنظمتها الحربية، وكشف إيال وايزمان حب الجيش الإسرائيلي لدولوز وغاتاري وديبور بعد الانتفاضة الثانية، على الأخص أفكارهم حول الحيز والموطنة ومحاربة العدو بسلاحه في غرض مغاير.

في عالمنا الناطق بالعربية، ينصب نقدنا للمثقف المعارض على علاقته المباشرة بالسلطة، مقابل ابتعاده عن الناس، كمثقف غير عضوي. ومن هنا الصورة الاستعارية الشهيرة “حظيرة المثقفين”. لكن حظيرة المثقفين في الواقع أوسع وأقل محلية بكثير من تلك الكيانات التي ترعرعت في ظل عبد الناصر ومبارك. حظيرة المثقفين الأغرب والأهم هي تلك التي داخل أسوارها (بما يشمل أسوار الترجمة وأسوار الجايستور وغيرها) يمارس ويطور الأكاديميون والمفكرون من الوزن الثقيل أعتى وأرقى أنواع الفهم والتفكيك والخيال والهجوم المباشر والشامل على حكوماتهم وأنظمتهم بل وأسس ديموقراطيتهم الزائفة، ويتحول كل ذلك بالأساس إلى علف لذكاء التحرريين ووقود لسلاح السلطويين.

يبدو لي أن كل ما نفعله بالثقافة هو استهلاكها، أما هم فيستخدمونها حقا، وضدنا.

ببطء (قاتل) لكن بثقة

نحن إذن نستهلك الثقافة المعارضة ضدهم أما هم فيستخدمونها حقا، وضدنا. ننتجها ونستهلكها ونعيد إنتاجها، وهم يدعمون هذا الإنتاج وفق حاجتهم، ويضعونه موضع التطبيق الفعلي وفق حاجتهم. حاجتهم وحاجة السوق، إحداهما تسبق الأخرى أو رديفة الأخرى.

يطمس هذا الاستنتاج (أو هذا الوعي والشعور الطاغي) الجانب غير المرئي في المشهد المعاصر، وربما كل مشهد سابق. فما أسميته اختصارا ثقافة معارضة هو عند رايمند وليمز نوع واحد من أنواع الثقافة (أي الكلمة التي اعتبرها في قاموسه الشهير إحدى أعقد الكلمات في الإنجليزية). هناك ثقافة معارضة أو مخالفة، وثقافة بديلة، وتنقسمان بدورهما إلى ثقافة بازغة وثقافة مترسبة. هذه الثقافات المناوئة للثقافة السائدة والمهيمنة، أو الخارجة أو المستقلة عنها إلى هذا الحد أو ذاك، تُترك في سلام إلى حين وفق وليمز، إلى أن تمثل تهديدا أو مشروعا يمكن الاستثمار فيه، فيقضى عليها أو تهمش أو، وهو الأغلب في شروط التقدم الصناعي والديموقراطي اللبرالي، تحتوى وتستوعب. يصف البعض ذلك بالتدجين، لكن هذا الوصف يغفل أيضا كيف أن الثقافة السائدة والمهيمنة كما تنزع القوة عما هو مخالف وبديل أو تبطلها، فإن نسبة غير هينة من هذه القوة تنتقل في الحقيقة إليها هي، وتأخذ شكل مرونة متزايدة باستمرار، وجاذبية ورحابة، وتطورا حميدا وليس بالضرورة إيهاما بهذا التطور والتقدم والتحسن.

وسواء كان ما يحدث هو سرقة المهيمن والسائد للمعارضة والاختلاف (وتحويلهما ضدنا) أو استيعابه واحتواؤه لهما وبالتالي استيعابنا واحتواؤنا نحن، بمعنى الابتلاع ولكن أيضا بمعنى الاحتضان بعد تخفيف خطورتنا إن لم يكن تحييدنا، تكون النتيجة هي لا مرئية الثورة وآثارها الحية في كل ما حولنا ونعيشه؛ كل ما طرأ ويطرأ من تغيير عميق في حقوق البشر ومكاسبهم تغييرا ينقلها من شيء لم يكن يخطر بالأمس في البال، ونتشكك نحن (التحرريون) قبل سادة الهيمنة (السلطويين) في تحققه كثمرة للنضال، إلى شيء مسلّم به وينظر إليه باعتباره من ثوابت الحياة، والحضارة، والإنسانية، إلخ. فبدون النضالات والمقاومات والمساهمات العظيمة التي لا تحصى في نقد وهدم وتغيير الأوضاع القائمة وإعادة تخيل العالم بل وإعادة تشكيله جزئيا بناء على هذا التخيل، من المستحيل تصور كيف كنا سنعيش اليوم، برغم كل ما يوهمنا بأن الغد أشبه ما يكون بالبارحة، وأن الطبقات الحاكمة تتصرف وكأن شيئا لم يكن، وأن التخلف (أو الخضوع للسلطوية والهيمنة والتسيُّد) راسخ، وأن التقدم (أو التحرر كما أفضل وصفه، بدلا من استخدام لغة إشارات المرور المضللة هذه) غير حقيقي.

عندما يخاطب ممثل عن جيل جديد من المثقفين أو المتعلمين عموما، في مصر والعالم الناطق بالعربية، ممثلا عن جيل أقدم، بالقول: “صدقني، الأمور تتغير، وستتغير، ولو بعد حين، وعاجلًا أم آجلًا يتبين من كان على الجانب الصحيح والنظيف من التاريخ،” من أين يأتي بهذه الثقة؟ قد يبدو هذا (وهو نوع مشروع من التلقي) بلاغة خطابية وإنشائية أولا وأخيرا، تمنيات، حماسات، محاولة للتأثير والإقناع لكي يرفع الطرف الآخر يده عن هذه أو تلك من الفئات المظلومة. لكن كاتب تلك السطور لا يشك فيما يقوله. في يوم ما، وكما تغير الكثير في واقع المصريين في عقود، سيكون مستوى لا نحلم به اليوم من التحرر والاختلاف الجنسي والغرابة الجنسية (وليس فقط للمثليين والمثليات والعابرين والعابرات) هو واقع المصريين الجديد المألوف إلى حد كبير حتى لو ظل البعض يستهجنه ويحاربه. كثير من أحلام وفانتازيات اليوم الأخرى ستكون واقعا عاديا، يفسح المجال لأحلام وفانتازيات جديدة. ولندع كل حديث الجحيم الأرضي الآن جانبا.

غير أن المشكلة التي لا تسمح بأن يتحول كل هذا التحرر المستمر إلى خلاص حقيقي وفردوس أرضي ليس فقط اللامرئية، ولا الاستيعاب والاحتواء والتهميش والقضاء على المقاومة والاختلاف، ولا الفوضى والتعقيد والتناقض، إنها هذا البطء القاتل.

الأشباح التي بيننا، الحية فينا


هذا هو ما يحدث في قصة قصيرة لبورخس: يزور مرشح في الانتخابات بيتا من بيوت الأهالي ضمن حملة طرق أبواب، تستقبله الأسرة المكونة من ثلاثة أجيال، وخلال وقت الزيارة تظل الجدة الطاعنة في السن حاضرة بأعينها وحواسها وسمعها الواهن ووعيها المشوش، وهذه العجوز هي من يعطي الزيارة معنى خاصا للمرشح كذلك، دونما اهتمام منه بمدى إدراكها لكل ذلك أو مباركتها الحقيقية، فهي أكبر الناخبين في الدائرة سنا. بعد مغادرة الوفد وبعض من تجمعوا للمشاركة والمشاهدة، تموت المرأة التي مرت خلال كل ذلك، وفي صمت ورعب لم تفصح عنه سوى عيناها، باضطراب عنيف وصدمة نفسية لم يدرِ بها أحد الموجودين. كان ما وصل إلى إدراك المرأة أن بلطجي المنطقة القديم، من أيام شبابها الأول، قد وصل أخيرا إليهم بعد تهديد طويل دفع أسرتها آنذاك إلى الاختفاء، وأنهم الآن هالكون بأبشع الطرق لا محالة. لا يعلم بكل ما حدث داخلها في هذه الدقائق إلا الراوي العليم والقارئ.

***

تجتمع امرأة ما برجل ما، في لحظة ما من تاريخ اجتماعهما، ويحدث شيء ما، ويكون شبح من نوع كهذا حاضرا. ويحضر شبح آخر بين كل أسود وأبيض. بين كل كادح وشخص من طبقة أرقى، بين كل محروم من المزايا ومتمتع بها وريث لها. يبعث هذا الشبح ذبذبات متفاوتة الحضور والقوة والتفاعل والتأثير من الخوف أو الحقد أو الكرب أو المرارة أو الغضب أو الارتباك أو ‘الذكرى’ السيئة. وما اجتمع رجل بامرأة، ولا رجل برجل، ولا امرأة بامرأة، ولا إنسان بآخر، إلا وهذا الشبح ثالثهما.

***

شبح البلطجي ليس شبحا صرفا. إن البلطجي حاضر بالفعل أيضا، وليس فقط من خلال ذكراه الأليمة. وهذا الآخر يحتمل أن يكون ملبوسا حقا بالبلطجي، وأن يعود البلطجي إلى أفعاله المعروفة من خلاله، أو أن يكتفي، وهذا هو الأغلب، بأن يكون للنهاية ثالثهما، محدثا أشكالا أعقد من العنف والارتباك وعدم الراحة و، في كل الأحوال، عدم تحقق السلام.

***

اللقاءات الطيبة والجيدة والسعيدة هي استثناء، ونتيجة جهد يكاد لا يرى ولا يلقى التقدير الكافي حتى من صانعيه؛ جهد يطرد الأشباح، مؤقتا، إن لم يكن بشكل مختزل ومعيب، وبالطبع ناقص وهش، يهدد بحضورها الأعنف لاحقا.

***

كل الموتى المظلومين، بما في ذلك المجرمين الكبار الذين تحملوا بمفردهم نصيبا غير منصف من وزر الجريمة، عليهم أن يعودوا لإنهاء الظلم. أن يتكلموا أخيرا، وأن نرى قصتهم، قصتنا، في اكتمالها. ولن تكون هناك ذاكرة أفضل من أخرى. ولن يكون هناك مثقال ذرة من ظلم يمكن إهماله. كل الأشباح التي بيننا، والحية فينا، يجب الإعلان عن حضورها، وحصرها في تعداد السكان، قبل عقد محكمة أرضية كلنا قضاتها يشمل حكمها النهائي قتل جميع الأشباح قتلا رحيما بها وبنا.

***

كل لحظة تمر على الواعين بوجود الأشباح دون أن يكون في فعلهم وقولهم وسكونهم وحركتهم وصمتهم ما يؤدي أو يظنون أنه يؤدي إلى هذا العدل وهذا السلام هو عرقلة للعدالة وتواطؤ مع قوى الحرب وخيانة للذات وهروب من السعادة وخوف من الحرية.

إعادة تدوير الثقاب

Instructions for a Light & Sound Machine (Peter Tscherkassky, 2005) on Dailymotion

من خلال إعادة تدوير تراث السينما المصرية السخيف والمثير لمشاعر متناقضة، منها الحنين للأسف، يؤكد حسين الإمام («زي عود الكبريت»، ٢٠١٤) على أن أعواد الكبريت قد تشتعل مرة أخرى، وأن لا عيب في هذا، بل تصبح قيمتها أكبر.


يصل التدخل في قلب المحاكاة الهزلية إلى جانب تخليق قصة واحدة من قصص إلى حد تصميم متاهة مغشوشة، وكابوس مهلوس، يضحك ويرهق ويسمم بجرعات خفيفة غرضها أن تكون ترياقا.


بانتهاء الفيلم إلى “بستان الاشتراكية” وافتقاد الراوي المجرم ذكريات الماضي الجميلة يصبح هذا عملا فريدا عن الماضي المصري الإجرامي سياسيا واجتماعيا في ظل أنظمة وثقافة سائدة تشوهت فيها الوطنية والرابطة الأسرية والاجتماعية إلى سراديب رهيبة من الأكاذيب والأسرار والتشوهات العميقة والابتذال وسفاح المحارم وتحالف الأعداء كما يُظهر داود عبد السيد بلغة كوميدية أخرى في «مواطن ومخبر وحرامي» (٢٠٠١)، على عكس نسخة الحرب الأهلية الصريحة في نهاية «عودة الابن الضال» (يوسف شاهين، ١٩٧٩).


إمكانية الكابوس المتاهي متحققة بكاملها في «تعليمات لماكينة ضوء وصوت» Instructions for a Light and Sound Machine (٢٠٠٥)، كابوس مغلق في هذه الحالة، لراعي بقر وحيد ضال ملعون، لكن فيديوهات عمر عادل على يوتيوب تلامسها في منطقتها الساخرة الخاصة وتلاعباته العابثة شديدة الدهاء.


وترينا أفلام علاء عبد الحميد الدراسية (لصورة الفنان في السينما المصرية) إمكانية أخرى لإحياء الأرشيف السينمائي هذا الذي قوامه الأفلام التافهة التي تبث وتعيد إنتاج التخلف على مستوى الأيديولوجيا والذكاء معا. أما «عندي صورة: الفيلم رقم ١٠٠١ في حياة أقدم كومبارس في العالم» (٢٠١٧) ففضلا عن تأملات محمد زيدان في السينما المصرية وحب هذه الأفلام وربطها بالتاريخ الحديث وفكرة البطل الزعيم والشعب في دوره الثانوي، فهو ينتصر لبطله الذي لم يعد ثانويا إذ تُنتشل مشاهده العابرة من الأفلام وتوضع أمام تسجيلات له في أواخر حياته الحقيقية كممثل معتزل لتكون سردية هجينة بكل المعاني.


قد تكون أكبر محاولة ناطقة بالعربية لعمل شيء من كل هذا هي «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» (رانيا إسطفان، ٢٠١١)، لكنها محاولة غير مقنعة ولا مرضية بالمرة، لأنها فيما يبدو غارقة في الحنين وحب السينما وحب سعاد حسني وحب الأرشيف وخالية من التفكير والنقد.


انخفاض جودة المقاطع المختارة من الأرشيف في فيلم الإمام قد يكون اختيارا يشير إلى مآل أصول هذه الأفلام في مملكة صحراء النفط، ويجعلنا نتساءل عن مدى أحقيتها بالترميم (إن لم يكن لفنيتها المطعون فيها فلأغراض أخرى). لكنه أولا وأخيرا جزء من اختيار حياة الإمام الابن وعمله: بخفة، دون جدية شديدة.

[تحديث: لمطالعة تأمل وتحليل أشمل للتجارب المصرية والعربية ضمن هذا الغرض المحدد لهذا النوع من الأفلام انظر هنا وهنا، حيث توجد مادة بحثية عملت عليها أثناء إعداد وتصميم برنامج أفلام أقيم بأبو ظبي في نهاية ٢٠٢١.] 

صرخة افتتاح السفارة الإسرائيلية

[شغّل الفيديو، وبعد الانتهاء منه شغّل التسجيل الصوتي، ثم شغّلهما معا بشكل متزامن تماما إلى النهاية. ويمكنك أيضا الاطلاع على تفريغ للتسجيل الصوتي أدناه.]

يوم افتتاح السفارة الاسرائيلية في القاهرة أنا كنت طالبة بالجامعة ووو وكنا مروحين على البيت وواقفين على الشباك عشان إحنا بنسكن في عمارة… بيت الطالبات مكون من تلات طوابق والسفارة افتتحت في فيللا من طابق واحد بالضبط جنب ال بيت الطالبات واحنا متل كل الناس وقفنا نتفرج على الافتتاح ووو طبعا ألم شديد فَ ابتدا ال… طبعا الصحفيين وكل الناس واقفين وابتدا العلم الاسرائيلي يرتفع آآآ فاحنا ما اتحملنا المنظر وكلنا… كان بيت طالبات عربيات يعني يعني سودانية فلسطينية سورية أردنية كل الجنسيات العربية… فكنا واقفين على الشباك ولما ابتدا العلم الاسرائيلي يرتفع آآمم ما ما قدرنا نتحمل المنظر هذا وكلنا بدون ترتيب وبدون تخطيط صرخنا وكأن واحد مات يا لهوي يا ولدي مش عارف شو فكل الكاميرات اتجهت على الشباك… بيت الطالبات وصورتنا وطبعا طلعولنا المصريين آآآ الشرطة المخابرات يمكن ما باعرف وبهدلونا وهيكه. المهم يعني باختصار أظن ‘نه ضوّعنا عليهم اللحظة وهاي كانت ردة الفعل الوحيدة لافتتاح السفارة يعني بس فعلا الشيء اللي كان غريب إنه ما اتفقنا وفجأة شعورنا كان عربي واحد كله موحد ما قدرناش نتحمل إنه يرتفع علم إسرائيلي في سماء القاهرة اللي بنحبها. تحياتي.

عن رغبة مشوهة في أن تكون جزءا من القصة

السائحات

“هم الإدارة يا ليل
واحنا الحيارى”
—من أغنية لعدوية، “يا ليل يا باشا”، حسن أبو عتمان

مثّل فيسبوك وتويتر فرصة تاريخية لأبناء وبنات الطبقات العليا والوسطى المرتفعة في جنوب العالم ممن اختنقوا بملل طبقتهم—الملل الذي أضفته على العالم طبقتهم في أصلها الشمالي. كان وضعهم الطبقي المميز قد منحهم الرفاهية الكافية للتأمل والتطلع والمقارنة والتوفيق بين تخلف مجتمعهم المحافظ وانفتاح المجتمعات الأقل محافظة. ثم منحتهم الوسائط الجديدة المجال لإشباع فضول التجربة لديهم وتحقيق اللقاءات المستحيلة. كما أراحتهم عوامل مسويّة، أي مساواتية مخادعة، بردم الفجوة دون جلبة، بما سرعان ما سيتبين للعالقين على الناحية الأخرى – إن لم يسقطوا طويلا في الفجوة التي ستنتفتح تحتهم فجأة من جديد – بأنها لم تُردم سوى بخدع لغوية-سينمائية وديكورات.

هذه اللقاءات العابرة تتخذ، في أشدها إيلاما بأثر رجعي، شكل الصداقة أو الحب أو الرفقة السياسية. وإيلامها مركّب: غدر العالم من خلال استقراره؛ كثافة التجربة القصيرة؛ تفاوت القدرة على أخذ القرارات؛ الوعي اللاحق بكل ما كانت الديكورات والخدع قد نجحت في إخفائه.

ولأن أشياء كهذه، مهما يكن، مكلفة، كما أنها تعتمد على عوامل زمنية تقوي إمكانات الفرصة التكنولوجية – كأنْ تقوم ثورة مثلا وتنحسر – فسيهتدي أبناء وبنات الطبقة إلى حل أقدم قليلا وإن بشروطه التكنولوجية الجديدة أيضا:

لقد ألهم البؤس الاجتماعي المرتاحين ماديا بالرغبة الملحة في أخذ الصور، وهو أرق أشكال الافتراس، من أجل توثيق واقع خفي، أي واقع خفي عنهم هم.

محدقا في واقع الآخرين بفضول، بانفصال شعوري، باحترافية، يشتغل المصور الفوتوغرافي المنتشر في كل مكان كما لو كان ذلك النشاط يتجاوز المصالح الطبقية، كما لو كان منظوره عموميا. في الحقيقة، تبدأ الفوتوغرافيا في الاستقلال بنجاح بوصفها امتدادا لعين فلانير [متصعلك] الطبقة الوسطى، الذي رسم بودلير خريطة دقيقة لحساسيته. الفوتوغرافي هو … ذواقة للتماهي العاطفي، … . الفلانير… ينجذب إلى… واقع غير رسمي متوار خلف واجهة الحياة البورجوازية “يمسك به” الفوتوغرافي، كما يمسك محقق التحري مجرما.

—“Melancholy Objects”, On Photography, Susan Sontag

تشبع العلاقات واللقاءات العابرة مع غير أبناء الطبقة احتياجات شتى لدى أبنائها: المغامرة (المستحقة بفضل التميز)؛ تخفيف الضيق بالغربة، على الأخص مجتمِعا بإحساس ما بالذنب يشوشر على الاستحقاق ويعكر صفو التميز وتقويه الثورة القصيرة الكثيفة بدورها؛ الشعور الطيب بتجاوز الإحسان إلى الكرم والقوة والتضامن (شعور بأننا من ناحيتنا حاولنا). وتشترط هذه العلاقة السياحية دون إدراك السائح(ة) بالضرورة درجة من الاحتماء، حيث لا يدرك بوجودها مثلا في شقة الآخر الفقيرة أحد، ولا ترى بصحبته إلا في سياقات ملتبسة أو عامة، وتكتمل مثالية هذا الاختفاء عندما يتخذ اللقاء شكل صور فوتوغرافية لهؤلاء الآخرين الأقل حظا بمسافة موضوع السياحة الإنسانية/السياسية، حتى لو عنى هذا النجاح أمانا أكثر/مخاطرة أقل وكثافة أقل، تُحل بوفرة الصور.

الإرهابي

لم يعد ولع الإرهابيين بالصور وهوسهم بإتقانها أمرا جديدا—ربما لم يكن أبدا جديدا بسبب طبيعة الإرهاب حتى لو سبق عصر الصورة بمعناها الحديث. لكن الأشد أصالة لدى الإرهابي هو هوسه بالقصة. نعرف ذلك الشعور الذي يتنزل علينا رويدا بوراثة العالم، وبالتالي امتلاكه نسبيا، ويعذبنا موضعنا القلق وغير المحدد من هذه القصة التي تتكشف أمامنا ببطء ولكلٍّ حسب مداخله إليها. ونعرف أولئك الذين تثبّت انتباههم على قصة بعينها إلى حد الكلام عن دورهم (الوهمي) فيها: كيف عرف(ت) ريا وسكينة مثلا، كيف أنه هو من اختطف الطفلة الأمريكية التي تمثل قضيتها لغزا غير محلول بعد، قبل أن تسخف الواقعية والاحترافية حماسهم فتدفعهم إلى الإنكار أو تفرج عنهم مع توصية بالعرض على طبيب.

يؤمن الإرهابي في الكثير من الأحوال بأمرين متناقضين ولكن منسجمين: حتمية التاريخ وغائيته، وحتمية دوره كذلك (أي حاجة التاريخ إليه). للحماقات الكبرى سحرها الخاص الفائق على الأخص لدى الغاضبين المغبونين عميقي الشعور بالضعة والهوان. فهذا العاجز عن عمل أشد الأفعال بساطة واتخاذ أكثر القرارات تفاهة بسبب قيود النظام السياسي-الاجتماعي يمكنه بتفجير نفسه، أو، وهو الأشد غواية هنا، تنفيذ مذبحة ثم الهناء بأضواء المسرحية، “تغيير” التاريخ. وكما تؤتي الصورة فعلها بمصاحبة سردية (مهما بلغت قوتها وجودتها: تعليق الصورة كأضعف الإيمان—بنيامين، سونتاغ، ماركر) تكتمل فخامة المذبحة مع مانيفستو يصعد بين عشية وضحاها إلى قمة “الأعمال” الأعلى قراءة في دوائر بعينها، ويكتسب احتراما إجباريا بسبب جدية الأمر وموضعا في السردية التي لم يكن البطل-المؤلف الجديد حتى صباح اليوم سوى قارئها المهووس.

هـ. م. س.

في بورصة جلسات النميمة بأنواعها تعلو قيمة بعض القصص على غيرها وتخضع للتكهنات والمضاربات، أو تتوزع الاهتمامات عليها حسب الذوق والرغبة. وبالرغم من أن ترديد كل إشاعة وقيل وقال هو في أحد وجوهه – على الأخص عندما تصاحب ذلك ثقة وتفاصيل وتأكيدات إضافية لإضفاء المرجعية والمشروعية – دعوى امتلاك للقصة ومزاحمة لوضع قدم فيها، فبعض هذه القصص يغري دونا عن غيره بـ”التدخل”، ربما تحديدا لغموض تفاصيله ونقصه وطابعه التفاعلي، كالمؤلفات التي تهدف إلى إشراك القارئ ودراسة الاحتمالات.

في الحياة الحقيقية لا تصبح هذه احتمالات بقدر ما أنها مساحات للفرجة المستمرة؛ مجسمات للتنفيس عن الغضب والانتصار للتحيزات؛ مواد للعب والتشكيل والتعويض عن الحسرة أمام قصص أخرى مغلقة. يطمح البعض بفضل موهبة أو موقع أو جدية أشد في مساهمة مختلفة نوعيا، مضفيا المشروعية والمرجعية بما هو أكثر من ترديد الكلام: يمكنك بالفعل أن تصبح جزءا من “القصة” بأثر رجعي. أنت هنا مؤلف بمعنى أكثر إيجابية ومادية. كما يمكن للروائي أن يدرس جعل كمال وعايدة يلتقيان في الجزء الثالث، يمكنك أن تدبر بالفعل لقاء بينهما في الحياة الحقيقية، لأول مرة منذ سنوات، لم تشهدهما قبلها، لم تعرفهما، لم تكن موجودا، وتستمتع بمراقبة ما يحدث، نتيجة فعلك الخَلقي، بقوتك، بوجودك في زمان ومكان لم تكن فيهما. لقد امتلكت القصة بالفعل حتى قبل ترديد الكلام: عندما اختزلتها بينك وبين نفسك إلى مشاهدها الأخيرة أو طبعاتها الرائجة. كل ما يتلو ذلك هو صيرورة امتلاك القصة، أو بالأحرى نهبها. أنت أيضا «بطل من ورق».

“الثورة”

Conference-of-the-Birds

وهكذا فإلى الحداثة انتميت أم إلى ما بعدها أم إلى ما قبلها، ستنتهي دائما إلى “دخول” القصة، وإلى امتلاكها كرواية واحدة كبرى أو ممزقة نهب كل ريح، راغبا أو مجبورا، بحماس أو – مثل أغلبنا – بدون (أو بالأحرى، بحماس أقل). ربما لا يمكن تصور التاريخ ومجرد الاتصال الاجتماعي دون هذه العملية—فإلغاء القصة أو تأليفها مجددا بقدر ممعن في الخيال النقدي يتطلب شروطا باهظة التكاليف وخارج الشروط الإنتاجية الحالية. ولكن هل يمكن تصور هذا الأمر الأخير نفسه – إذا أسميناه “الثورة” مثلا – كعملية خالية من امتلاك القصة إلى هذا الحد أو ذاك، على هذا النحو أو غيره؟

هل يمكن لمن تنضم إلى قصة مهمة باستخدام وسم موحد يعلن حضورها ودخولها، #أناـأيضا، أن تمتلك القصة الكبرى أيضا بقدر من الإبداع يتخيل القطع حقا مع الفصول والأجزاء السابقة؟

هل يمكن لمن يقضي عمره في المقاومة والتمسك بقصته وثقافته أمام من يسلبونه إياهما (حتى موته يسلبونه إياه) أن يبذل أيضا الجهود لنزع طابع الملكية الخاصة – بكل ما تعنيه من التفاوت الرهيب في القدرة على الاستحواذ وتكريس القصص – عن كل قصة بما في ذلك قصته؟

الرواية الكبرى سجن موحش فسيح إلى حد يوحي بأنه مفتوح (جماعي/جماعاتي)—«منطق الطير» للعطار؟ الروايات المتعددة متاهة جحيمية باذخة (فردية/فردانية)—“حديقة الطرق المتشعبة” لبورخس؟ القصة الكبرى ليست هنا بعد. ويتطلب اكتمالها بما يكفي توفيقا عميقا ومقنعا لعدد وافر من كل شيء وعكسه، كل قصة وأخرى مغايرة ومضادة. إذا كان للانشطار النووي أثر الدمار الشامل، فهو يعطينا فكرة عن الأثر الشامل الآخر لهذا النوع من اتحاد الذرات.

منير ١٩٨٩


هذا الڤيديو من حفلته في كلية الفنون التطبيقية في ١٩٨٩ يكاد يكون المدخل المثالي لفيلم وثائقي عن حياة وزمان ومسيرة محمد منير: لقطات ذات طابع أرشيفي شخصي من شريط ڤيديو منزلي رديء مرفوع على يوتيوب منذ ١٠ سنوات، في ذات المكان الذي تخرج منه قبلها بدستة من السنوات، تحديدا في قسم الڤيديو، وبعد وقت قصير من إصدار ألبومه السابع، الانتقالي، شيكولاتة، يتحدث في الثواني الأولى منه عن الكلية والحرية ومصر والحرب، معلقا على رفض بعض الطلاب (الإسلاميين كما نفهم ضمنا) إقامة الحفلة:

أفكر زملاءنا اللي رفضوا تواجدنا ف الكلية…من حقهم…ومن حقهم يرفضوا دا ويعبروا دا ف صورة…بأي صورة ترضيهم…بس بافكرهم بجيلي أنا واللي موجود منه كتير يعني على ما أتذكر الدكتور محمد الصاوي، الدكتور حسين فهمي، والدكتور عادل الحفناوي، كلهم يتذكروا إن احنا سنة 70 و71 و72 عملنا مظاهرات زيهم. بس الفرق بيننا وبينهم إن المظاهرات دي كانت بتطالب مصر إنها تحارب.

لكن دلالات الڤيديو في سياق محمد منير تعود بالأساس إلى دلالات أكبر للحظة: فمحمد منير في بدء مغيبه هو شخصيا، تماما في اللحظة التي يخطو فيها بعيدا عن مشروعه الطويل الذي خرج معه  إلى النور مع فرقتي هاني شنودة ويحيى خليل، وفي معية مكتشفه وراعيه وملحنه الأول أحمد منيب الذي يعيش أيامه الأخيرة، وبرفقة شعراء عامية مكرسين وشباب وجدوا فيه أخيرا صوتا لهم، متحررا منهم وضائعا في آن معا، وهؤلاء جميعا وبلادهم ومن شابههم في العالم في ذروة لحظة الانكسار والانهزام الكبرى في تاريخ اليسار العربي والعالمي وكذلك العالم الثالث وقوى التحرر:

في البدء كانت الهزيمة. … من نصف السبعينيات الثاني، كانت الحركات الاحتجاجية المولودة في أواخر الخمسينيات… في حالة اضمحلال. وأسباب ذلك شتى… وقد وجدت عملية الاضمحلال هذه التعبير الأوضح عنها…في سقوط جدار برلين. من الواضح أن شيءا كان قد انتهى في حوالي عام ١٩٨٩. المشكلة هي أن نعرف ماهية هذا الشيء ونحدد متى بدأ الشيء الذي انتهى.

(Razmig Keucheyan, Hémisphère gauche. Une cartographie des nouvelles pensées critiques, La Découverte, 2010.)

وفقا لهذه النظرة فإن محمد منير يعتلي المسرح ويلقي كلمته الغاضبة الحزينة الوجيزة البليغة في نهاية دورة كبرى إلى هذا الحد أو ذاك من التاريخ الحديث، بدأت إما: ١- قبل ذلك بثلاثة عقود مع صعود اليسار الجديد على خلفية بدأت تحديدا في موقعين جغرافيين أحدهما مصر (السويس، ١٩٥٦)؛ أو ٢- قبل ٧ عقود مع الثورة البلشڤية، والتي هزت العالم “مبكرا جدا” بما فيه مصر وبقية المستعمرات المتنازع عليها مجددا بنهاية الحرب العظمى، وهذه العقود السبعة تساوي القرن العشرين “القصير” كله بحسابات هوبزباوم؛ أو ٣- قبل قرنين بالتمام والكمال، وبحسابات هوبزباوم كذلك، أي منذ اندلاع الثورة الفرنسية، ١٧٨٩، افتتاح القرن التاسع عشر “الطويل”، والتي سرعان ما ستأتي بناپليون وحملته على مصر والولع به بما في ذلك افتتان مؤسس مصر الحديثة، والمصريين أنفسهم، به.

أقصر الدورات المحتملة إذن تعود إلى ما بعد مولد محمد منير بعامين، وتصل إلى ذروتها في ١٩٦٨، بعد عام من الهزيمة المنكرة لمشروع تحرر الضباط الأحرار، والتي سيطالب الطالب محمد منير وزملاؤه بإنهائها… عسكريا.

(يُتبع)

كباريه التاريخ/تاريخ الكباريه: الهِشِّك بِشِّك والحنين إلى الماضي المهزوم

تساءلت مرة على الوسائط الاجتماعية (ولم يشف أحد غليلي) عن حقيقة التياتروهات التي تربينا عليها–بالأبيض والأسود. أحقا كان الناس يذهبون إلى كباريه من نوع خاص يعرض تابلوهات راقصة لنساء كنعيمة عاكف وسامية جمال وتحية كاريوكا أو جيش من الراقصات المصريات والأجنبيات يتوسطهن مغن ككارم محمود أو فريد الأطرش أو محمد فوزي؟ هذه الأوبريتات التي تفرجنا عليها على الشاشة منذ وقت مبكر في السينما المصرية واستمرت نماذج مصغرة ومحورة منها عبر الستينات والسبعينات–أهي مجرد ماضٍ متخيل؟ يهمنا هذا. لأن أسلافنا في المدينة يبدون أكثر استمتاعا بالترفيه الاجتماعي.

في الهشك بشك شو على مسرح سيد درويش (ويا له من مكان) لم نكن لنميز أحدا يتوسط الآخرين على مدار العرض. يحدث هذا بالتبادل وكثيرا ما ترمي عينك هنا أو هناك لترى أشياء تحدث بالتزامن. حتى الراقصة الجهنمية ليست مركز الخشبة. هناك شاشتان مثل نسخة حديثة من صندوق الدنيا تعملان أحيانا كستار لسلويت وتؤكدان في الأغلب (ألجزء الأول العشريناتي بالذات) على الحنين، بالصور والموتيفات، ثم يجن جنونهما لتصبحا قماشتي لوحات (يذكر تربيعهما بجماليات إنستاغرام) لتحريك كيتشي كوميدي.

هذا الحنين لم يكن أبدا خالصا. هو من البداية يتصاعد عبر أكثر من خط ليصيغ بيانات تعبيرية من قطع كألعاب الأطفال، مثلما يدعم قوس الأحجار الجسر لا الأحجار نفسها كما يوضح ماركو بولو لكوبلاي خان وهو يحكي له عن مدن إمبراطوريته التي لم يعرفها: ممارسة النوستالجيا والسخرية منها؛ استحضار الزمن الذهبي ومآلاته المأساوية الكامنة وصولا إلى التابلوه الأحمر الختامي “العتبة جزاز” على إيقاع حزين شارد مهلوس طويل (الأغنية ‘الهابطة’ التي أوّلها البعض كمرثية لسيناء، الصيد السهل وبداية الطريق السائغ أمام العدو)؛ إعادة تجسيد (بشكل غير دقيق تاريخيا ربما، بأريحية لُعَبية وليس بلا مبالاة) لزمن انفتاح ولهو يقوم بها أشقاء أغراب أمام أهله الأصليين ليذكروهم ربما بوقت كانوا فيه أكثر خفة ومرحا برغم كل شيء، أبهج ألوانا، أشد تسامحا–لكنه لهو مقرون بالضياع، بانحلال داخلي في عزلة الفقاعة. لكن هذه الفقاعة ليست في ذاتها شرا بل يحتفي العرض في الأساس بها ويدعونا إليها.

إننا نرى قصة بلا قصة، تسردها مجرد مجاورة هذه الأغاني وأداؤها بهذا الشكل؛ قصة عن الأحلام وسقوطها. ولكننا أيضا ونحن نمارس الحنين نتعرض لترفيه طازج عالي الجودة معاد تصنيعه، يحتفي بالجنسي والمنحرف والهابط والطربي والهزلي، بكل ما حاول الخطاب المحافظ والتقدمي في آن معا كنسه على الأقل خارج قاعة الأوبرا، التي تحولت، ولو لمرة، إلى كباريه زمن جميل ممتد، نعرف فيه أننا لسنا هنا لنشرب وننسى وإنما لنتذكر وننبسط كثيرا ونرتبك أيضا. إن هؤلاء المهرجين هم في الواقع مهربون، كما يسمي سكورسيزي طائفة من المخرجين الأمريكيين العظام (ضمن أربع تقسيمات، أحدها السحرة). لعلنا نقوم مثل لعازر كما قام الجندي المقعد إذ نتداوى بالتي هي الداء كما قال سيد المجون. ودع عنك لومي.

[كتب هذا النص في الأصل كرسالة إلى صديقين حضرا العرض نفسه كجزء من تفكيرنا حوله.]

إني رأيت أفضل عقول جيل الستينات وقد دمرها الجنون

(1)

يتجرع شباب الثورة مرارة الخيانة وصدمتها؛ لقد خذلهم أساتذتهم من المناضلين القدامى والمثقفين الكبار، فبعد أن ساهموا في كبح الثورة، وقفوا دون مواربة مع الفاشية الصاعدة. لكن التفسيرات لا تخرج عن بطاقة تعريف ‘تقدميًُّو الدولة’ بتنويعاتها وفكرة صراع الأجيال. وما يغيب عنهم هو الأفدح: أنهم أنفسهم مرشحون لتكرار السقوط المدوّي نفسه، برغم كل الفوارق والمميزات التي لصالحهم، وبرغم تجربتهم الفريدة. وذلك ببساطة لأنهم لم يسألوا بجدية: ماذا حدث للأساتذة وكيف أصابهم ما أصابهم؟

(2)

منذ بضع سنوات، جلس مثقفان كبيران حقا في كافيتيريا المجلس الأعلى للثقافة، بعد ندوة عن ما بعد الاستعمار. كانا تقدميّيْن وإن كان أحدهما على يسار الآخر بمسافة، لكنهما اتفقا أن لا حل للمشكلة–وأن هذا لا يعني إنكارهما، أو حرمانهما من، “لذة النقاش”. لقد تحول السيدان بعد ثلاثة عقود في حظيرة الدولة للمثقفين إلى دودتي كتب، إلى كلبي فلسفة، إلى حيواني سياسة، لا أمل عندهما ولا إيمان ولا حل، لكنهما كعقلين متطورين يقتاتان على الفكر.

(3)

المناضلون القدامى مثقلون بتجربة هائلة، بنضال حقيقي دفعوا ثمنه ملاحقة وسجنا وتعذيبا وخسائر لا تعد ولا تعوض. لكن خسائرهم الأكبر التي لم يدركوها أبدا جاءت فيما بعد، عندما وصلوا إلى ما اعتقدوا أنه الحكمة: انقشاع الأوهام الدفين بإمكانية الثورة، كل ثورة؛ بأنهم قاموا بواجبهم وآن لهم أن يرتاحوا، أن يهادنوا النظام بمعناه الواسع، أن يغيروه أحيانا من داخله، أن يتماهوا معه دون أن يفقدوا ذواتهم، أن يحافظوا على الخير والنور الباقيَيْن ويدافعوا عنهما ويحموهما، أن يصلحوا قدر المستطاع بالشروط الجديدة وعلى مهل، وإلى الأبد، وأن يعزوا أنفسهم بالكتب والأطفال ولَوْك السياسة والتاريخ وتحليل الأخبار وحب الحياة.

(4)

وفي هذه الأثناء، يحدث ما لا يحسب المناضلون القدامى حسابه ويكادوا لا يدركونه، فهم يتورطون أكثر فأكثر مع المنظومة؛ تتماهى مصالحهم مع مصالحها؛ يصبح الثوري مثقفا وموظفا؛ زوجا وأبا وأما؛ مواطنا وزبونا؛ يحارب من جبهة المحامي والحقوقي والكاتب والحزبي والمهني؛ تتحول حربه مع النظام التي لا غبار عليها إلى جزء من الحرب اليومية في إطار تنافس ديموقراطية السوق، داخل دولة القانون التي تبتلع الصراع وتبرّده في دولابها العتيد الرهيب، ويتشظى نضاله إلى أنشطة لا تخرج أبدا عن قواعد المعارضة، حتى إن بدا غير ذلك، وتوحي له المكاسب وكذلك المقاومات المختلفة لنضاله بأنه لا يزال على طريق الثورة.

(5)

وفي هذه الأثناء أيضا، يكبر أبناء وبنات المناضلين الكبار، البيولوچيون والمنتسبون؛ يُربَّوْن في البيت كما يربَّى الأطفال في كل بيت مع فارق نوعي ما؛ يندرجون في مدارس النظام؛ يلقَّنون مبادئ التعامل مع المنظومة: التوازن، الحسابات، الحلول الوسطى؛ تضج عقولهم ونفوسهم بالتناقضات الصارخة، بالماضي المجيد والواقع الأنكر؛ يحلمون بالثورة التي بشر بها الأساتذة وينتظرون مثلهم أن يتغير المجتمع؛ يساهمون في ذلك بما تيسر ويتمايزون عن غيرهم ويحاولون الاتساق مع أنفسهم وأن يؤدوا دورهم في متابعة المقاومة؛ يحبون الوطن كما يعرفونه من الصور؛ يشاغبون أساتذتهم بينما هم واقعون في أَسْرهم وهواهم وضائعون في ظلهم. إنهم، مهما يكن، أبطالهم. يكرهون الشرطة والدينيين والرأسماليين، لكنهم كما ورثوا عن أساتذتهم ذكاءهم وعداواتهم القديمة، ورثوا مصالحهم الجديدة.

(6)

المناضلون القدامى مسمومون بهزائمهم التاريخية وشكهم العميق في جدوى ما فعلوه وحقيقة ما حلموا به. إن انتظارهم الدهري يقودهم إلى استعذاب القصص والاعتزاز الزائد بالانتصارات الصغيرة، إلى التطلع لأن يثبت الزمن حكمتهم مقابل هذا الفصيل أو ذاك، وإلى الرضا بسقف أوطى لا يجلب ذل الخيبة. ألم تتحسن المنظومة بفضل نضالاتهم الطويلة المتعاقبة؟ أليس الطريق طويلا لا يزال قبل التحول الكبير؟ وهم في تخبطهم العظيم وترنحهم كالسكارى وإحداثهم جلبة تليق بعقولهم الفذة وتجربتهم الضخمة يصيبون تلامذتهم بداء الضمير الملوث بحزن الكبرياء الجريح، بجنون التمزق بين الاغتراب والتماهي، وبين التجاوز الإعجازي والسقوط في ورطة المصالح والاحتواء. إن الملاحقات والسجون والتعذيب لم تمر عليهم مرور الكرام. إنهم لم يتداووا من ذلك أبدا. إن تلك أشياء قد تُفْقد العقل.

(7)

يحمل المناضلون بالضرورة أعباء خرافية. فمهامهم الفائقة للعادة تعني أنهم يقومون بوظيفتهم الثورية كأفراد نيابةً عن الجماهير الغفيرة، وفي انتظار تلك الجماهير الغفيرة. وفي لحظات الشك اللعين واليأس المطبق والقبضة الخانقة ينمو الجنون شيئا فشيئا: هل حدث حقا ما حدث؟ أما نراه حقيقة؟ أهناك من سيأتي بالفعل؟ وكما سيشعر تلامذته فيما بعد، يترنح هو منذ وقت طويل بالخيانات. إن الثوري الذي يحتكر الثورة، بنبل لا يغير من حقيقة الاحتكار، لن يغفر أبدا لنفسه وللآخرين. إن الثوري المهزوم المعتزل كائن مشوه، ضحى تضحيات فادحة بما في ذلك تضحيات بروحه، وهو لا يدفع ثمن التوقف عن التطور بالاندثار قبل أن يُلحق تدهوره الضرر بكل زرعه في دراما صامتة بالغة العنف.

(8)

تأتي كل ثورة لتجيب على أسئلة قديمة، لكن سؤالا واحدا يبقى لا إجابة له فيما مضى وإلا لما جاءت ثورة جديدة من الأصل: كيف يتغير العالم؟ كيف نقطع مع الماضي؟ كيف يختفي الظلم؟ كيف تتوقف البشاعة؟ كيف نسعد؟ لكن اللحظات العالية تنحسر حتى قبل أن يستوعب النظام الصدمة. فشروط الانحسار كامنة في المنظومة—النظام الأكبر، النظام بمعناه الواسع، الحقيقي. تعود الجماهير إلى بيتها لتعيد ما كان؛ تذهب إلى العمل وتشتري وتبيع وتلتمس الأمان، ويهرع التلامذة عند التقاط الأنفاس لاستيعاب ما فاتهم من دروس الماضي الجليل الذي طالما راود أحلامهم المراهقة: انتفاضات الطلبة والعمال والانقلابات الوطنية وإسقاط الجبابرة؛ الأغاني الجماعية وسحر الانصهار العلوي في الجماهير؛ إخضاع السماء والتاريخ والأقدار وإيقاف الزمن. يصبح لكل ذلك فجأة معنى وتدب فيه الروح. لكن اللحظة تنحسر بغدر وتفلت من القبضة البطولية، ويعود النهر إلى مجراه وديعا منكسرا بعد أن فاض في دورته الطبيعية، ويتم ترويضه أكثر. يكمل التلميذ دورة حياة الأستاذ وفي لحظة منها ينوء الأول بخيانة الأخير ويجن الثاني بتمرد الأول. يعودان ثملَيْن إلى الضفاف الموحشة الرتيبة بعد أن ذاقا من جديد نشوة اكتساح الأمواج لكل شيء وتبشيرها بأرض جديدة.

(9)

في كل ثورة يبرز، إلى جانب ممثليها الحقيقيين، رجال من طابع مغاير. بعضهم، من جهة، مشتركو الثورات السابقة وعابدوها الخرافيون ممن لا يعرفون مغزى الحركة الراهنة بيد أنهم لا يزالون يحتفظون بتأثير في الشعب لأمانتهم المعروفة للجميع ولشجاعتهم أو لمجرد قوة التقاليد؛ وآخرون هم مجرد زُعَّاق يرددون، العام تلو العام، تصريحاتهم المألوفة ضد الحكومات القائمة ويلقبون لذلك بلقب ثوريين من الدرجة الأولى، هذا من جهة ثانية. وبعد 18 آذار (مارس) ظهر أيضا رجال من هؤلاء وتسنى لهم أن يلعبوا دورا بارزا في بعض الأحيان. وقد عرقلوا الحركة الحقيقية للطبقة العاملة بقدر طاقتهم، تماما كما عرقل رجال من ذلك الطراز التطور التام لجميع الثورات السابقة. إنهم شر لا مناص منه؛ ولا يمكن أن يطرح هؤلاء جانبا إلا مع مضي الوقت ولكن ذلك الوقت ما كان في حوزة الكوميونة.

كارل ماركس – «الحرب الأهلية في فرنسا»، 1871

(10)

كل ثورة تقوم، نجحت أم لم تنجح، تفعل ما يمكن تسميته كسر الحلقة الجهنمية، الحلقة التي كانت تحول دون قيامها أصلا: الخوف، الانقسام، الشك، غياب الوعي… لكن الحلقة لا تنكسر حقا إلا بالاستمرار المرير؛ بتأبيد اللحظة الفائقة للطبيعة وتعميقها بحيث تتخلص من عفويتها وطبيعتها الزائلة. لكن الجذور ضعيفة حقا على عكس جذور المنظومة الضاربة الغائرة في نفوس الثوار أنفسهم، الذين يحاربونها على أرضها وبشروطها. وإذ تنحسر الجماهير يجن جنون الثائر الجديد بينما يقفز جنون القديم إلى مستويات جديدة، صعودا وهبوطا بين ذروة الأمل والثقة وقاع اليأس والشك. يعودون كلٌّ بِطَريق إلى لعبة احتكار الثورة؛ يصبح هذا ناشطا وهذا سياسيا؛ يهرولون في دهاليز السلطة والقانون ليمارسوا أدوارهم الواضحة المعروفة منتهزين الفرص وموازنين بين الضمير والأمان؛ يحاولون هدم الدولة ثم يهبون لإنقاذها مرتعبين؛ يشاركون أعداءهم الغناء للوطن؛ يناقشون الثورة على التليفزيون وسط الفقرات الإعلانية أثناء سقوط شهداء جدد، ويشاركهم النقاش لص الثورة وجلاد الثوار؛ تهولهم قلة عددهم بعد كل فرز جديد؛ يتوقف بعضهم عن الغناء للوطن؛ ينمو وعي أكثرهم، لكنهم يعودون إلى المدرسة والجامعة لا ليحتلوها وإنما ليتخرجوا ويعملوا ويتزوجوا؛ يسب بعضهم دين الجماهير ليتهمهم رفاقهم بالكفر بالجماهير التي صنعت الثورة، ويظل هؤلاء وأولئك على السواء أفنديات، يمارسون علاقاتهم الاغترابية وإنْ بروح جديدة منتعشة ومثقلة بالخبرة الأليمة بعين حالمة وعين سئمة؛ يقدسون شهداءهم ويتآكل إيمانهم بسواهم وتختلف مذاهبهم في عبادتهم؛ يمارسون الدروشة حول أيقوناتهم المجنحة؛ يصبح أهالي الشهداء آل البيت الجدد الذين سيوسعون رقعة الثورة، وأبطال (مدرجات) الكرة نجوم الدوري العائد بمباركتهم ثم شهداء المذابح الجديدة (في المدرجات) ثم أصحاب الأرواح المطالبة بالقصاص في المحاكم وتحقيقات الشرطة والنيابة؛ ينقضون على كل عدو إلا الذي خرجوا إلى لقائه؛ يستنسخون سلطويته في أبنية حركاتهم وأحزابهم وعلاقاتهم؛ لا يجترحون بديلا وحيدا على الأرض يرهص بمجتمع أحلامهم؛ تهرول فلولهم في حرب استنزاف طويلة وراء المعتقلين وضد القرارات وفي طريق الانتخابات والاستفتاءات، وفي ألف مناسبة يائسة لاستحضار المعجزة من جديد؛ يضخون اقتصادهم في صناديق اكتتاب عبثي لدفع الكفالات والرشاوى؛ يكتئبون كما تريد لهم المنظومة ويبتهجون كلما أفرج عن مسجون؛ ويصبح أفضلهم عدميا أو إيجابيا. وتنبذهم الجماهير، وينبذهم النظام، وينبذون بعضهم البعض، لأنهم في الحقيقة، مثل أساتذتهم، لم ينبذوا أنفسهم بأنفسهم. وخلال كل تمرداتهم الصغيرة على الأجيال السابقة، لا يأخذون الثورة معهم إلى المنزل، إلى الحياة اليومية، بعد أن تركوا ما كان سيصبح أسرتهم الجديدة من ثوار الشوارع. وبينما يستيقظ الوحش الذي أقلقوه، يصبحون أساتذة، وينتظرون الثورة الجديدة.

cohnbendit1968
“الثورة…كم أحببناها!”

پوكو حرام: عبد الناصر وطياروه المرتزقة

إهداء: إلى كل المصريين المتعاطفين مع التلميذات المخطوفات في نيچيريا من قِبَل إرهابيي بوكو حرام الذين ارتكبوا مذابح ضد المسيحيين وضد المسلمين غير المتعاونين.

في مطلع الألفية الثالثة يتحلق طلبة بجامعة المنيا حول شاشة كمپيوتر أحدهم ويشاهدون تسجيلات مصورة منوعة مضحكة أو فضائحية أو عنيفة. من النوع الأخير مثلا لقطات لقتل وإعدام بدون محاكمة من الشيشان. ربما لم يكن لهذا علاقة بأن بعضهم يتعاطى العقاقير الكيميائية كما كان رائجا في ذلك الوقت بين الشباب، بقدر ما أن هذه المصنفات كانت منتشرة لسبب ما على الكمپيوترات – في وقت لم تكن الهواتف فيه ذكية ولم تكن سرعات الإنترنت تسمح بتداولها عليه – ضمن الغرائب والعجائب والممنوعات المتنوعة، لكنهم كانوا على أي حال متأثرين.

أحد الڤيديوهات يظهر شخصين أفريقيين داخل حقل، بجوارهما ثالث بخوذة، أحدهما عاري الصدر ومقيد، وعلى شفتي الآخر ووجهه تعبير هادئ باسم واثق بينما يتبادل الحديث بالإنجليزية مع شخص وراء الكاميرا يتحدث الإنجليزية بلكنة أصلية، بينما المقيد يتوسل بلغة غير مفهومة. بعد دقيقتين وأثناء الحديث يطلق الأول النار على رأس الثاني. يصرخ الطالب مصدوما رغم أنه شاهد الڤيديو لأكثر من مرة: “سَكِّته! سَكِّته!”

بعد عشر سنوات، يجلس أحدهم ليبحث عن أصل الڤيديو الذي علق بذاكرته دونا عن غيره، ولم تكن لديه أية فكرة عن خلفيته. وبعد أن بحث طويلا بكل الكلمات المفتاحية المحتملة، وجده. اللقطات من الحرب الأهلية النيچيرية لإعدام بدون محاكمة لرجل مشتبه في كونه جنديا بيافريا، من أرشيف قناة إخبارية أوروبية. وتأتي المشاهدة الجديدة بحوار (كله بالإنجليزية) وتفاصيل مختلفة عما في ذاكرته.

المعدوم في الڤيديو هو ماثياس كانو أثناء مداهمة لقرية من قِبَل الجيش النيچيري الفيدرالي. والڤيديو مرفوع كمحاولة للتعرف على القاتل (برتبة كاپتن) “لكي ترقد روح كانو في سلام.”

في مقال ويكيپيديا الإنجليزية عن الحرب المعنية يلفت نظر الباحث من ضمن قائمة المتحاربين علم الجمهورية العربية المتحدة، الذي ظل اسما رسميا لمصر حتى بعد انفصالها عن سوريا بل ووفاة عبد الناصر، ضمن أعلام عربية أخرى، إلى جانب إنجلترا والاتحاد السوڤييتي ودول أفريقية. وبمزيد من البحث، ومع قلة المصادر بشكل غريب ومريب في زمن انفجار المعلومات–وكلها بالإنجليزية، لم يصل بالعربية إلى شيء تقريبا سوى رسالة جامعية على موقع الأهرام عرضها بطرس بطرس غالي عن الحرب في مجلة السياسة الدولية سنة 1975، دون أن يذكر مصر.

أما المصادر الإنجليزية فلا تذكر مصر إلا بشكل عابر لكنها تتفق على الدور الذي لعبته: قيام الطيارين المصريين وهم يقودون طائرات حربية روسية حديثة (إليوشين وفقا لبعض المصادرباعتراض طريق رحلات المؤن والإمدادات للجانب البيافري وقتل المدنيين البيافريين، إذ ألحقوا بهم خسائر كبيرة في الأرواح وهم في مواقع مدنية، ومن على ارتفاع منخفض، مثل مراكز إيواء اللاجئين والمستشفيات وغيرها بشكل واضح فيه استهدافهم، وكل هذا بعد وقت قليل جدا من هزيمة 1967 المرتبطة عسكريا بتدمير سلاح الطيران المصري. وهكذا فإلى جانب قوات الشمال النيجيري المسلم، قام “تحالف أممي من بريطانيا العظمى والاتحاد السوڤييتي ومصر وجامعة الدول العربية دون شفقة بقتل عدة ملايين من الأطفال والنساء والرجال الإجبو/البيافريين قصفا و…تجويعا.

وبالعودة إلى ويكيپيديا الإنجليزية، حيث أغلب المصادر المذكورة هناك في هذا الجانب تعود إلى أبحاث وكتب غير متاحة على الإنترنت بأي شكل، فمن الواضح أن الانفصاليين البيافريين كانوا مرتبطين بشكل ما بإسرائيل (مع فرنسا والبرتغال ودول أفريقية) ومع ذلك فإن قائمة المتحاربين على ويكيپيديا الإنجليزية لا تضع إسرائيل ضمن المتحاربين، على عكس ويكيپيديا العربية التي تضعها ولا تذكر مصر على الإطلاق.

اتخذت الحرب داخل نيچيريا شكلا إثنيا (عرقيا ودينيا وثقافيا في آن، وإقليميا أيضا حيث تقع بيافرا الانفصالية قصيرة العمر في الجنوب الشرقي)، وسرعان ما تحولت إلى قضية إنسانية بسبب المجاعة والأمراض. وفي المجمل أسفرت الإبادة عن سقوط ما يتراوح من مليون إلى ثلاثة ملايين مدني.

وفي حوار جمال نكروما بعد ثورة 2011 مع محمد فايق “رجل عبد الناصر في أفريقيا” ونائب المجلس القومي لحقوق الإنسان بمصر وقت إجراء الحوار، ورئيسه فيما بعد، يقول فايق إن من ضمن التحديات التي واجهتها سياسة عبد الناصر في أفريقيا أنه “عند نشوب الحرب الأهلية النيچيرية بعد انفصال بيافرا ثارت ثائرة أمم أفريقية عديدة متعاطفة مع القضية البيافرية حيال موقف القاهرة الموالي لنيچيريا. واتهم الرئيس التنزاني چوليوس نيريري ونظيره الزامبي كينيث كاوندا مصر بدعم نيچيريا بسبب الانحياز الديني.” لكن أبطال الاستقلال أساؤوا فهم زميلهم المصري، بحسب فايق، الذي يقول إن الأخير أيد “سيادة نيچيريا ووحدتها الوطنية واتصالها الجغرافي”. و”عارض…بضراوة بلقنة أفريقيا”. وبقي أبطال الاستقلال أصدقاء مقربين “بغض النظر عن الاختلافات السياسية” و”كانوا يتحدثون بصراحة شديدة وتبادلنا الرؤى والأفكار بحرية”.

يصدق على الإنترنت بشدة القول المنسوب لهيرقليطس “إنك لا تنزل النهر مرتين”. وفي السنوات الأخيرة بالذات، تتسابق المؤسسات الصحفية والأراشيف الكبرى في نشر رصيدها وإتاحته للجميع على الإنترنت. وهكذا نتمكن لأول مرة من الوصول ليس إلى مقالات عن اغتيال السادات مثلا وإنما إلى نصوص وتسجيلات التقارير الصحفية الواردة من الوكالات والمنشورة والمذاعة في المنابر المختلفة في ذلك اليوم والأيام التالية ومرورا بجلسات محاكمة مغتاليه، إضافة إلى ڤيديوهات كالمذكورة أعلاه خرجت من مكتبات هواة التسجيلات والجامعين أو سربت من العاملين في مؤسسات.

لكن تبقى غريبة قلة المعلومات المتاحة عن حرب أهلية/جريمة إبادة حديثة ومجاعة كبرى دامت ثلاث سنوات على الأقل، ولعلها تشي بقلة المعلومات خارج الإنترنت أصلا. وربما كان من ضمن الأسباب بطء المؤرخين، إذا استبعدنا فكرة التكتم والمسكوت عنه. وبالطبع فإن الصمت لا يخص دور مصر فقط، بل ربما كان سببه الأساسي ضلوع قوى غربية كبرى. ولم ينشر تشينوا أتشيبي (وهو من إجبو بيافرا) مذكراته عن الحرب، “التي طال انتظارها” وفقا لبي بي سي، سوى في 2012، قبل وفاته في العام التالي. وحتى في الأدب، لم تظهر رواية تشيماماندا أديتشي المولودة بعد الحرب سوى في 2006. ومن اللافت أن مترجمتها إلى العربية، بعنوان «نصف شمس صفراء» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009)، هي فاطمة ناعوت، الكاتبة البارزة المؤيدة للسيسي والجيش بعد انقلاب 30 يونيو والمذابح التي تلته والمحبة لعبد الناصر.

يرد ذكر مصر والمصريين مرتين في الرواية. ففي صفحة 425 من الطبعة المصرية يقول أحد الأبطال:

بوسعك أن تخبرهم كيف أننا مستمرون في الصمود منتصرين برغم الميج ال17 النيچيرية وال28 وال29 التي يقودها طيارون روس ومصريون وتقذفنا بالقنابل كل يوم، وكيف أن بعضهم يستخدم طائرات ركاب يدحرجون منها القنابل بخشونة ليقتلوا النساء والأطفال…

وفي صفحة 469، يدعو قس في صلوات الصباح قائلا:

الرب يبارك فخامته! الرب فليعط تنزانيا والجابون القوة! فليدمر الرب نيچيريا وبريطانيا ومصر والجزائر وروسيا! باسم المسيح المقدس!

وفي مذكرات أتشيبي، يرد ذكر المصريين 4 مرات منها مثلا في صفحة 136، تحت عنوان “دماء، دماء في كل مكان”:

وجد البيافريون أنفسهم تحت هجوم كثيف بعد هجمة وسط الغرب. فسيطرت الفرقة الأولى في الجيش بقيادة محمد الشوة، بسرعة، متقدمة مع ثيوفيلوس دانچوما، على مدينة نسوكا الجامعية، ثم قصفت بلا هوادة عاصمة بيافرا بأسلحة ثقيلة. ساعد في العملية العسكرية الطيارون المرتزقة المصريون وهم يقودون طائرات الجيش النيچيري الجديدة البريطانية و…التشيكية و…السوفييتية.

اسم بوكو حرام Boko haram، حيث الكلمة الأولى بلغة الهاوسا والثانية عربية، قد يعني “الفساد حرام” وقد يعني “التعليم الغربي حرام”، حيث كلمة بوكو تحريف لكلمة book. أما كلمة poco فهي اختصار لمصطلح postcolonialism (ما بعد الاستعمار). وقصة مصر في بيافرا ترينا وضعنا بالضبط في ظل ما بعد الاستعمار، وأن ما بعد الاستعمار حرام، حرام يجب إزالته.

[نُشر على موقع المصري اليوم بتاريخ 16 مايو 2014، والجمل بالخط الغليظ تصحيحات تعذر إدخالها هناك وفيما يلي تعقيب رُفض نشره.]

تعقيبات على تعليقات القراء

101011_r20077_p886-934-1200-12132801

أثار مقالي بالمصري اليوم (المنشور قبلها بأيام على مدونتي) شيئا من الصدمة المطلوبة عند المكذبين والمصدقين على السواء. وهذا أمر محمود كما أن الإنكار مفهوم (بل وجيد من ناحية فهو يدل على استبشاع الأفعال المذكورة)، وعبادة عبد الناصر أيضا مفهومة. وسأتناول هنا انتقادات الجانبين بدون ترتيب محدد:

  1. القصة كلها مختلقة: في الحقيقة لم أدّع في المقال أنني أكشف أو أفضح أي شيء. وأغرب ما في قصة بيافرا أنها ليست سرا. وكل ما أردت لفت الانتباه إليه هو كيف أصبح تاريخ حرب وجريمة كبيرة كهذه مسكوتا عنه وكيف لا يزال البحث عن حقائقه أمرا صعبا بعد مرور أكثر من 4 عقود. وحتى دور مصر ليس سرا وقد أكدت على الواقعة الغريبة الخاصة بترجمة فاطمة ناعوت الناصرية السيساوية لرواية أديتشي دون أي رقابة، وأن هذه الترجمة للمفارقة صادرة عن الذراع الرئيسية للنشر في الدولة المصرية. وفي هذا المقال بالأهرام والذي لم أذكره في المقال السابق لأنني اكتشفته لاحقا، ونشر منذ أقل من 3 أشهر، يتحدث محمد فائق، “رجل عبد الناصر في أفريقيا” وسبق ذكره في المقال السابق، عن تفاصيل عسكرية أكثر تخص دور مصر وطياريها في الحرب. ولعل ناعوت وفائق لا يجدان غضاضة فيما فعلناه في بيافرا أصلا. ويذكر سعيد الشحات في مقال باليوم السابع من 2010 طرفا من خبر الطائرات الروسية ودور مصر. (للمزيد عن فائق وعبد الناصر وبيافرا راجع رواية مؤيدة لعبد الناصر وتصف العملية “الطريفة” كجزء من “مقاومة الاستعمار” صفحة 241 من كتاب «أحاديث في السياسة والفكر والسلام والتعليم»، محمد صالح المسفر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005، وفي الأسفل صورة منها، ويمكن مطالعتها أيضا على كتب جوجل هنا.)                    Screenshot from 2014-05-19 204625
  2. المعلومات العسكرية عن الطائرات المستخدمة خاطئة وتكشف الكذب: لم أدّع أي خبرة عسكرية (البلد والحمد لله مليئة بالخبراء العسكريين ولست والحمد لله واحدا منهم) ولم أدّع القيام بتحقيق استقصائي. ويمكن لغيري تدقيق هذه المعلومات. وكل معلومة وردت بهذا الصدد أحيل القارئ فيها إلى مصدر كما أن اتفاق المصادر ملحوظ. وجدير بالذكر أنني استبعدت كل مصدر مثير للشك ومن ضمن ذلك المصادر الإسرائيلية. وأخيرا فبدلا من أن يجتهد المكذبون في بيان أي ثغرات متخيلة، دعونا نتفق أن الطيارين المصريين المرتزقة، أو المحاربين بالوكالة إذا كان تعبير “مرتزقة” جارحا للمشاعر، لم يكونوا في كل الأحوال يقودون طائرات ورقية.
  3. المقال يعتمد على ويكيبديا وهي مصدر ضعيف: لم تذكر ويكيبديا إلا في سياق عرض قصتي الشخصية الخاصة باكتشاف الأمر. بل إنني لفتت النظر إلى التفاوتات بين المعلومات المذكورة في النسختين العربية والإنجليزية وكان غرضي من ذلك أيضا التأكيد على فكرة أساسية في المقال وهي: من يكتب التاريخ؟
  4. الغرض من المقال غير واضح: تزامن نشري للمقال على المدونة، وكان قبل ذلك مجرد خاطرة سريعة على فيسبوك من العام السابق، مع ردة فعل عالمية امتدت إلى مصر على اختطاف التلميذات النيجيريات، ومن هنا كان الإهداء إلى المتعاطفين ليزدادوا تعاطفا وفهما من ناحية، ولنختبر حقيقة تعاطفهم من ناحية أخرى. فقبل أن تظهر بوكو حرام بعقود، شاركت مصر في حرب ذات أبعاد طائفية تطورت إلى إبادة الشعب نفسه الذي يتعاطف المصريون معه اليوم. ولهذا ربطت، إن كنت في حاجة إلى الربط أصلا، بين الإرهاب على طراز القاعدة في أفريقيا، وبين حروبها الأهلية، وبين تاريخ ‘أبطال الاستقلال’، فكل هذا يحدث في إطار ما بات يعرف بعملية ووضع ما بعد الاستعمار: الاستقلال الاسمي لمخلّفات استعمار لم يغير إلا شكله القديم. اللعب بالألفاظ على كلمة “بوكو” أكثر من مجرد زينة بلاغية. وحرب عبد الناصر بالوكالة للاتحاد السوفييتي وإنجلترا ونيجيريا في الوقت نفسه توضح ذلك. كما أن تورطه في ذبح المدنيين البيافريين باستخدام طيارين مصريين بعد وقت قليل مما جلبه علينا من نكسة ذات آثار درامية باقية جانب آخر من عبث ومآسي ما بعد الاستعمار، ومن نافلة القول إنه يزيدنا خزيا. والناصرية الرابضة في حياتنا بعد ثورة يناير 2011، والتي انتكست جزئيا على الأقل بسببها، تجعل القصة ذات معنى أكبر وأكثر معاصرة بالنسبة للمصريين، حتى لو اعتبروا جرائم كهذه تسقط بالتقادم.
  5. حداثة سن الكاتب وعدم معاصرته للأحداث: هذه النقطة أتفه من أن نهتم بها، فبداهة أن التاريخ ليس حكرا لمعاصريه وإلا سنلغي باستمرار كل ما حدث قبل أن يولد ويعي أكبرنا سنا! وربما كانت حداثة سن الكاتب عذرا لجهله بالأمر حتى وقت قريب، أما الكبار فما حجتهم؟ وأخيرا فحداثة السن نعمة بفضل الإنترنت، أحد أبطال قصتي، وبفضل معاصرتي لثورة أطاحت بحاكم كان وقت ارتكاب مذابح بيافرا قائدا لقاعدة جوية فمديرا للقوات الجوية فرئيسا لأركان حرب القوات الجوية فقائدا للقوات الجوية، وهو من يُسأل في ذلك وليس أنا فهو بالطبع يعرف الكثير.

Save