عشوائيات

كان هشام بوزيد يتجول بنا فيما يمكن وصفه بالظَّهير العمراني والطبيعي لطنجة، أو امتدادها المهمَل سياحيا وثقافيا لحساب المدينة الواجهة المطلة على البحر وفي القلب منها المدينة القديمة، وكانت الجولة تدعو حرفيا إلى أن نعطي ظهرنا للبحر. في إحدى وقفات موكب طاكسياتنا، شرح بوزيد التعاون بين الفنانين والباحثين عبر أتيليه قيسارية وبين سكان هذه العشوائيات المحيطة بنا والمتاخمة لخلاء من وراء منطقة صناعية، غير بعيدٍ عن منطقة سكانية شرعية لشرائح من الطبقات المتوسطة، وعلى مرأى من توربينات رياح فوق تلال مخضرّة.

من ضمن ما قاله بوزيد – عن سياسيّات هذا التعاون ومغزاه والحياة الاجتماعية التعاونية داخل الحي وتاريخه وكيف بدأه السكان ووسعوه – تلخيص للوضع القانوني والأمر الواقع الذي يفرضه السكان بعد سنوات طويلة من الاعتماد التام على الذات—وربما التهديد في ظل عدم الاعتراف من الدولة أو الاتهام بالتعدي. وذكر الحالة الغريبة لقانون مفاده جواز البناء غير المرخص إن تم ليلا. (ويبدو أن هناك قانونا مشابها في البلد التي جئت منها: مصر.)

أثارت انتباهي هذه العلاقة المفاجئة بين كلمة عشوائيات – ذات الدلالات السلبية – والجذر عشي. ومنه كلمتا عشاء بكسر العين ثم فتحها، والعمى الليلي الذي عرف به مثلا الأعشى شاعر العرب الكبير، وتعبير “خبط عشواء” السلبي كذلك بمعنى فعل الشيء كيفما اتفق بفوضوية ودون نظر أو توجيه، كما قد تفعل الإبل مثلا (والمستعار فعلُها في بيت زهير الشهير، وتخريجته الإسلامية أن المراد عدالة الموت—عدالةٌ ما).

“أمرٌ دُبِّر بِلَيْلٍ”؟ مؤامرة الشعب الناجحة على حكامه؟

لعل بإمكاننا الآن تطوير هذا المعنى الجديد والحميد لكلمة عشوائيات: أجزاء من المدينة يبنيها سكانها ليلا على قدر إمكاناتهم البسيطة، خلسة، أي في غفلة من البيروقراطية التي تحيا بالنهار؛ ما يستدعي أيضا الجملة القرآنية التي تلفت انتباهنا إلى النقلة المحتملة من العين إلى الغين في كلمة غشي ومنها “أُغشي عليه” وغشاء أي حجاب أو غطاء رقيق: “فأغشيناهم فهم لا يبصرون”.

لا بل العشوائيات هي كل ما نعمله ونعيشه ونتخيله خارج الدولة، من ورائها، مستغلين ما تبقى من نقاطها العمياء. ولأننا أيضا ليس بيدنا الآن لكي نحيا، أي نحيا خارج النظام، سوى أن نَخْبِط خَبْط عشواء.

[هذا النص منشور ضمن محتويات العدد الأول من مكان، تحرير وليم كتز.]

طوق غرا المقدس: فيلم منهار ومصقول عن حياة منهارة ومصقولة

المعنى المضبوط للحضارة هو حياة المدن. وفي ذروة الحداثة ظهرت سيمفونيات المدن، أفلام وثائقية أو روائية تحتفي بالمدن في لحظات مجدها وصمودها. طوق غرا المقدس سيمفونية عكسية لمدينة تتقوض من داخلها، لحضارة تنهار. ينعكس التشظي وضيق المساحات على بنائه وعلاقات شخصياته وتعامله مع الحيز. لا يعيب الفيلم سوى الأمثولة الشاخصة بشكل مزعج في قصة الحشرات والنخل الذي يزاحم الأمثولة الطبيعية الأصلية الخاصة بالطريق وضحاياه والمسيرة البشرية. اختيار عدم التعليق مثير في معنى وهوية الفيلم الوثائقي لكنه يختار نصف المسافة بين توثيقية صارمة وروح فيلم بركة التأملية الصرفة.

[كتب هذا النص في الأصل ضمن أنشطة ورشة كراسات السيماتيك، دورة بإشراف ريما المسمار. وهو منشور في العدد الأول – والأخير – من مطبوعة الورشة، كمساهمة وحيدة اختارها المحرر.]

«متسللون» (خالد جرار، ٢٠١٢): المدينة كسجن والمستعمرة كحديقة حيوان

كشخص لم يطأ الأرض خارج بلد ميلاده أصبح فيلم بونيويل لعنة محلقة فوقي. ففي «الملاك الهالك»، يُحبس رجال ونساء بورجوازيون داخل منزل مضيفهم بعد حفلة. الأسباب في الفيلم سوريالية وربما رمزية لو قبل بونيويل فك رموزه. أما حالتي فلا هي سوريالية ولا أنا هؤلاء البورجوازيين.

كانت إجابتي التقليدية على سؤال لِم لَم أسافر هي تارة عدم امتلاكي كلفة السفر، وتارة علاقتي المرتبكة والمبتورة بالمؤسسات التي انتميت إليها والتي لم تسمح أبدا بالوصول إلى نقطة تسفيري على غرار الآخرين. بعد الثورة وعيت فجأة على النقص الفادح في هذه الإجابة. إننا لا نسافر أو لا نسافر كما نريد لأن حريتنا في التنقل مقيدة. أصبح هذا طبيعيا بحيث لم نعد نرى فيه حرية مسلوبة. نتحدث عنه فقط في حالة حظر تجول أو احتلال.

في الماضي سافر الفقراء قبل الأغنياء. لهذا قالوا إن “أرض الله واسعة.” و”الرجل تدب مطرح ما تحب.” و”مطرح ما ترسي دق لها.” السفر الآن ميزة. العالم يغلَق. لكن الأيدي لا تتوقف عن الدق. “لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟” إنهم يدقون الآن فماذا حدث؟ في فيلم نرويجي عن الهجرة غير الشرعية وجرائم الشرف يتسلل مراهق كردي في خزان نفط أيضا، لكنه يصل لأن فن الهروب تطور كثيرا.

في المدينة-الدولة أثينا، عاش المواطنون رفاهية مادية وفكرية وسياسية على حساب المستعمرات والعبيد على الهوامش. الضفة الغربية الفلسطينية هي المدينة العكس. المدينة اللادولة للعبيد المستغنى عن خدماتهم. حيث تتقاطع في أذهاننا مشاهد عبور الطريق السريع وجدار العزل مع قوارب المهاجرين غير الشرعيين الغارقة والتائهة والمتربص بها، والمرعبة في كل الأحوال. تتقاطع المدينة مع صورة السجن وخط الموت حوله، الذي أصبح اسمه مصطلحا لمواعيد تسليم العمل النهائي – ديدلاين.

هل العالم يغلي لأننا لم نعد نقبل أو نملك تحمل هذه الحدود؟ من رسمها ورسم علاقاتها؟ بالتأكيد ليس نحن. كيف نحاصر حصارنا؟

في عالم تتمرد على سكانه الطبيعة، يتماهى السكان مع الحيوانات. يطفرون مثلهم حول الأسوار. كما في  «يد إلهية»، حيث يعرف السجين مغمضا أرضه أكثر من الضابط الإسرائيلي – مهما بدا ذلك كليشيهيا إلى حد مضحك أو متغافلا عن حقيقة أن سلطة الاحتلال تملك آلة معرفتها الخاصة الاستعمارية – تعرف هذه الكائنات أرضها كِعَرس الليل، لتخرج من مخابئها وأقفاصها. الشيء الغريزي الحسي الذي تصدره تجربة التسلل الخطرة يقاوم المعنى المهين المتمثل في الحَيْوَنة.

[كتب هذا النص في الأصل ضمن أنشطة ورشة كراسات السيماتيك، دورة بإشراف ريما مسمار.]

تحديث:

IMG_20160528_103011
أوسلو، مايو ٢٠١٦: خطوة صغيرة للإنسانية، خطوة كبيرة لإنسان.

بابل الشابّي وسليم: الحقيقة والخيال وما بينهما

هذا الفيلم العلامة هو بدءا من عنوانه وإعلان مخرجيه الثلاثة الافتتاحي عن رفض الترجمة يسير في مستويين مترابطين لموضوع واحد: حاجز اللغة والاستلاب الإعلامي. فبدلا من تقرير إخباري يختزل في أقل من دقيقتين الساعتين الطويلتين إلى حد العذاب، وبدلا أيضا من وثائقي يلتقط حالات إنسانية من هذا السجن المفتوح على الحدود التونسية-الليبية (وهذه في حد ذاتها معلومة اضطرارية ليست من داخل الفيلم) ويتقصى بشكل بحثي ما وراء هذه الحالة من خروج وانتظار رعايا حكومات مختلفة عالقين، يقدم لنا الصناع ما يبدو للوهلة الأولى مادة خاما تقريبا.

في اللحظة الوحيدة التي يبدأ فيها عامل نيجيري بالكلام عن رأيه في التعايش يشوشر عليه حوار مواز مع عامل آخر. المساواة في الظلم عدل كما تقول الجملة المأثورة؛ إما أن يتكلم الجميع أو لا أحد. (من يمثل من؟)

إننا نعاني (أو المطلوب أن نعاني) أقرب معاناة ممكنة للبشر في الفيلم، ونُحرم من التواصل قدر حرمانهم. لكن ذلك لا يجب أن ينسينا أن التصوير والمونتاج يعنيان الانتقاء حتما. كما أن الصناع يفقدون هم أنفسهم الصبر أحيانا على الصمت فيما يبدو فيسألون رجلا آسيويا عن مصدر الخبز. لكنهم في النهاية ينجحون فيما يرمون إليه من خلال ‘حقيقتهم’ الناقصة بالضرورة.

هذا فيلم تأملي مهم عن الفضاء والسلطة والاتصال (أو بالأحرى انهياره كما تقول أغنية لد زبلن)، بابل لعنة الحضارة هذه المرة لا السماء.

[كتب هذا النص في الأصل ضمن أنشطة ورشة كراسات السيماتيك، دورة بإشراف الطاهر الشيخاوي.]