كباريه التاريخ/تاريخ الكباريه: الهِشِّك بِشِّك والحنين إلى الماضي المهزوم

تساءلت مرة على الوسائط الاجتماعية (ولم يشف أحد غليلي) عن حقيقة التياتروهات التي تربينا عليها–بالأبيض والأسود. أحقا كان الناس يذهبون إلى كباريه من نوع خاص يعرض تابلوهات راقصة لنساء كنعيمة عاكف وسامية جمال وتحية كاريوكا أو جيش من الراقصات المصريات والأجنبيات يتوسطهن مغن ككارم محمود أو فريد الأطرش أو محمد فوزي؟ هذه الأوبريتات التي تفرجنا عليها على الشاشة منذ وقت مبكر في السينما المصرية واستمرت نماذج مصغرة ومحورة منها عبر الستينات والسبعينات–أهي مجرد ماضٍ متخيل؟ يهمنا هذا. لأن أسلافنا في المدينة يبدون أكثر استمتاعا بالترفيه الاجتماعي.

في الهشك بشك شو على مسرح سيد درويش (ويا له من مكان) لم نكن لنميز أحدا يتوسط الآخرين على مدار العرض. يحدث هذا بالتبادل وكثيرا ما ترمي عينك هنا أو هناك لترى أشياء تحدث بالتزامن. حتى الراقصة الجهنمية ليست مركز الخشبة. هناك شاشتان مثل نسخة حديثة من صندوق الدنيا تعملان أحيانا كستار لسلويت وتؤكدان في الأغلب (ألجزء الأول العشريناتي بالذات) على الحنين، بالصور والموتيفات، ثم يجن جنونهما لتصبحا قماشتي لوحات (يذكر تربيعهما بجماليات إنستاغرام) لتحريك كيتشي كوميدي.

هذا الحنين لم يكن أبدا خالصا. هو من البداية يتصاعد عبر أكثر من خط ليصيغ بيانات تعبيرية من قطع كألعاب الأطفال، مثلما يدعم قوس الأحجار الجسر لا الأحجار نفسها كما يوضح ماركو بولو لكوبلاي خان وهو يحكي له عن مدن إمبراطوريته التي لم يعرفها: ممارسة النوستالجيا والسخرية منها؛ استحضار الزمن الذهبي ومآلاته المأساوية الكامنة وصولا إلى التابلوه الأحمر الختامي “العتبة جزاز” على إيقاع حزين شارد مهلوس طويل (الأغنية ‘الهابطة’ التي أوّلها البعض كمرثية لسيناء، الصيد السهل وبداية الطريق السائغ أمام العدو)؛ إعادة تجسيد (بشكل غير دقيق تاريخيا ربما، بأريحية لُعَبية وليس بلا مبالاة) لزمن انفتاح ولهو يقوم بها أشقاء أغراب أمام أهله الأصليين ليذكروهم ربما بوقت كانوا فيه أكثر خفة ومرحا برغم كل شيء، أبهج ألوانا، أشد تسامحا–لكنه لهو مقرون بالضياع، بانحلال داخلي في عزلة الفقاعة. لكن هذه الفقاعة ليست في ذاتها شرا بل يحتفي العرض في الأساس بها ويدعونا إليها.

إننا نرى قصة بلا قصة، تسردها مجرد مجاورة هذه الأغاني وأداؤها بهذا الشكل؛ قصة عن الأحلام وسقوطها. ولكننا أيضا ونحن نمارس الحنين نتعرض لترفيه طازج عالي الجودة معاد تصنيعه، يحتفي بالجنسي والمنحرف والهابط والطربي والهزلي، بكل ما حاول الخطاب المحافظ والتقدمي في آن معا كنسه على الأقل خارج قاعة الأوبرا، التي تحولت، ولو لمرة، إلى كباريه زمن جميل ممتد، نعرف فيه أننا لسنا هنا لنشرب وننسى وإنما لنتذكر وننبسط كثيرا ونرتبك أيضا. إن هؤلاء المهرجين هم في الواقع مهربون، كما يسمي سكورسيزي طائفة من المخرجين الأمريكيين العظام (ضمن أربع تقسيمات، أحدها السحرة). لعلنا نقوم مثل لعازر كما قام الجندي المقعد إذ نتداوى بالتي هي الداء كما قال سيد المجون. ودع عنك لومي.

[كتب هذا النص في الأصل كرسالة إلى صديقين حضرا العرض نفسه كجزء من تفكيرنا حوله.]

لقد ناكتنا الحياة

لقد ناكتنا الحياة يا جماعة. وأنجبت منا عيالا، أجنة، جنينا واحدا على الأقل نحمله، نحملها، إلى الأبد. ناكتنا وأنجبت منا ومن الضروري الآن أن: ١- نعترف بأنها ناكتنا وأنجبت منا. ٢- نعترف بالعيال. ٣- نخرج هؤلاء العيال ليلعبوا جميعا في الشمس لأول مرة في حديقة كبيرة جدا ننشئها لهذا الغرض. ٤- نستخدم وسائل منع الحمل من الآن فصاعدا وإلى حين بيقظة تامة. ٥- نتخلص من هذا الفالوس العملاق الذي تنيكنا به الحياة ونضعه في المتحف مع آثار الحضارة. ٦- نبكي ونصرخ طويلا جدا جدا في الحديقة. ٧- نتناك بشكل جديد تماما، بشكل غير حضاري، بشكل لا تحمل فيه كلمة نتناك كل الأحمال التي تحملها الآن.

قشعريرة موت سابق

أحيانا تسري فيَّ قشعريرة مزدوجة: نغمة وأخرى توافقية تشكلان موتيفة موسيقية؛ جملة قصيرة وَجِلَة. في مشهد من السيرة الهلالية يشطر دياب غريمه الزناتي خليفة نصفين طوليا، ومن هول المفاجأة لا يموت الزناتي–ينسى أن يموت! يصيح به قاتله: “اهتز يا ملعون!” فينتبه الزناتي ويتساقط. أشعر أحيانا أنني الزناتي، مت ولم أنتبه. ويصاحب الشعور أو يتبعه أو يسبقه شعور بالامتنان الغريب لأنني عشت اللحظة التي كانت ستستحيل إذا كنت قد مت. أقول لنفسي الأصغر عمرا: “حسنٌ أنك لم تفعليها. وإلا لما كنت هنا.” ويستدعي الشعور أبطالا آخرين خبروا تنويعات أخرى على الميتات السابقة: مريم التي “أَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنسِيًّا”، وغيفارا في فيلم سودربرغ إذ يقول لمحاوره بينما هو ورفاقه تتساقط بقيتهم الباقية: “لكي تنجو هنا، لكي تنتصر…عليك أن تعيش كما لو أنك قد مت بالفعل.” “أنا مت والا وصلت للفلسفة؟”