إعادة تدوير الثقاب

Instructions for a Light & Sound Machine (Peter Tscherkassky, 2005) on Dailymotion

من خلال إعادة تدوير تراث السينما المصرية السخيف والمثير لمشاعر متناقضة، منها الحنين للأسف، يؤكد حسين الإمام («زي عود الكبريت»، ٢٠١٤) على أن أعواد الكبريت قد تشتعل مرة أخرى، وأن لا عيب في هذا، بل تصبح قيمتها أكبر.


يصل التدخل في قلب المحاكاة الهزلية إلى جانب تخليق قصة واحدة من قصص إلى حد تصميم متاهة مغشوشة، وكابوس مهلوس، يضحك ويرهق ويسمم بجرعات خفيفة غرضها أن تكون ترياقا.


بانتهاء الفيلم إلى “بستان الاشتراكية” وافتقاد الراوي المجرم ذكريات الماضي الجميلة يصبح هذا عملا فريدا عن الماضي المصري الإجرامي سياسيا واجتماعيا في ظل أنظمة وثقافة سائدة تشوهت فيها الوطنية والرابطة الأسرية والاجتماعية إلى سراديب رهيبة من الأكاذيب والأسرار والتشوهات العميقة والابتذال وسفاح المحارم وتحالف الأعداء كما يُظهر داود عبد السيد بلغة كوميدية أخرى في «مواطن ومخبر وحرامي» (٢٠٠١)، على عكس نسخة الحرب الأهلية الصريحة في نهاية «عودة الابن الضال» (يوسف شاهين، ١٩٧٩).


إمكانية الكابوس المتاهي متحققة بكاملها في «تعليمات لماكينة ضوء وصوت» Instructions for a Light and Sound Machine (٢٠٠٥)، كابوس مغلق في هذه الحالة، لراعي بقر وحيد ضال ملعون، لكن فيديوهات عمر عادل على يوتيوب تلامسها في منطقتها الساخرة الخاصة وتلاعباته العابثة شديدة الدهاء.


وترينا أفلام علاء عبد الحميد الدراسية (لصورة الفنان في السينما المصرية) إمكانية أخرى لإحياء الأرشيف السينمائي هذا الذي قوامه الأفلام التافهة التي تبث وتعيد إنتاج التخلف على مستوى الأيديولوجيا والذكاء معا. أما «عندي صورة: الفيلم رقم ١٠٠١ في حياة أقدم كومبارس في العالم» (٢٠١٧) ففضلا عن تأملات محمد زيدان في السينما المصرية وحب هذه الأفلام وربطها بالتاريخ الحديث وفكرة البطل الزعيم والشعب في دوره الثانوي، فهو ينتصر لبطله الذي لم يعد ثانويا إذ تُنتشل مشاهده العابرة من الأفلام وتوضع أمام تسجيلات له في أواخر حياته الحقيقية كممثل معتزل لتكون سردية هجينة بكل المعاني.


قد تكون أكبر محاولة ناطقة بالعربية لعمل شيء من كل هذا هي «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» (رانيا إسطفان، ٢٠١١)، لكنها محاولة غير مقنعة ولا مرضية بالمرة، لأنها فيما يبدو غارقة في الحنين وحب السينما وحب سعاد حسني وحب الأرشيف وخالية من التفكير والنقد.


انخفاض جودة المقاطع المختارة من الأرشيف في فيلم الإمام قد يكون اختيارا يشير إلى مآل أصول هذه الأفلام في مملكة صحراء النفط، ويجعلنا نتساءل عن مدى أحقيتها بالترميم (إن لم يكن لفنيتها المطعون فيها فلأغراض أخرى). لكنه أولا وأخيرا جزء من اختيار حياة الإمام الابن وعمله: بخفة، دون جدية شديدة.

[تحديث: لمطالعة تأمل وتحليل أشمل للتجارب المصرية والعربية ضمن هذا الغرض المحدد لهذا النوع من الأفلام انظر هنا وهنا، حيث توجد مادة بحثية عملت عليها أثناء إعداد وتصميم برنامج أفلام أقيم بأبو ظبي في نهاية ٢٠٢١.] 

عندما كنت تذهبين إلى المتاحف

حبيبتي،

حل عيد ميلادك التاسع والعشرين منذ 10 أيام. اطمئنني. لم تبلغيه. مُتِّ دون السابعة والعشرين. أما اليوم فتحل ذكرى لم تعد في تقويم أحد غيري. ففي عصر مثل هذا اليوم منذ 10 سنوات على زهرة البستان صرنا حبيبين. وللسنوات السبع التالية اختلفنا وأنت ضاحكة ومغتاظة حول التاريخ الصحيح، فلسبب ما التبس علي الأمر دائما: أهو 1 أغسطس أم 1 سبتمبر؟ هذه المرة والمرتان السابقتان ليستا استثناءا. الفارق أنك لست هنا لتحسمي لي ولأطمئن لذاكرتك التي وثقت بها كما وثقت بك في كل شيء، أكثر بكثير مما وثقت في نفسي.

***

أنا لا أعرف بالضبط معنى أن أكتب لك الآن. كل ما أعرفه أنه ليس خاليا تماما من المعنى. أنت لست هنا لنتأمل معا ونثرثر في دقائق الأشياء. ولكن أتعرفين ما هو الشيء الأقسى؟ صدقيني، مهما كانت المنافسة شرسة على القائمة (ودعك حتى من الأشياء بالغة القسوة وانعدام الإحساس إلى حد مضحك التي قالها لي وأمامي الممرضات والتمرجية باعتبارك جثة)، الأشد قسوة بلا منازع هو أنني أنسى تفاصيلك. منذ قليل شممت بين النوم والصحيان ما تخيلت أنه رائحتك. لا أشكو من أنني حُرمت من الاحتفاظ بها أطول وقت ممكن في ملابسك. فربما كان الأدق أنني نجحت في نسيان تفاصيلك. هل يخفف فداحة الأمر أن أضيف كلمة “بعض”؟ أليس نسيان تفصيلة واحدة من جسمك فادحا بما يكفي؟ ألست محقا في أن أعتقد أحيانا أن من الحماقة والشر والعبث أن نحب على هذا النحو؟ وهل تخلصت حقا وإلى الأبد من أعراض الانسحاب الخاصة بافتقاد لمستك وصوتك وصورتك الحية؟

***

عندما كنت تذهبين إلى المتاحف، كان يهزك أكثر من أي شيء منظر الأدوات المنزلية اليومية ولعب الأطفال؛ فكرة أن هذه المعروضات التاريخية القديمة كانت يوما في مطبخ وغرفة نوم وفناء، وكان للمرأة والطفل أسماء وحيوات كاملة وتفاصيل وقلوب تخفق وأيام تسير. وعندما ذهبت أنا إلى البيت بعدك للمرة الأولى، جربت للمرة الأولى أن أرى وألمس أشياءك وآثارك وأنت لست في العالم. لكنك يا هند لست إنسانا مجهولا من التاريخ. (ما زلت لا أعرف كيف كنت قبلك وفي الحقيقة أين أنتهي أنا وتبدأين أنت.) فكرت أن أقيم لك مزارا خاصا من مكتبتك ودبدوب طفولتك وكوبك وأدواتك وضاعت الفكرة. هل يضيع شيء؟ وهل ينجو شيء؟

***

بعد أن رحلتِ كنت مصرا باستماتة على استعادة كل شيء والحفاظ على كل شيء. لكنني توقفت بسرعة ويأس. الآن أريد أن أبدأ بصبر واستسلام وتحدٍِ في أن أسجل كل شيء؛ كل تفصيلة بدت تافهة وهامشية، أن أجمع كل ما يتعلق بمن أنت وكيف كنت وماذا حدث معك، كما يفعل المؤرخون. وبعناد أستعيد مرارا اللحظة التي انتزعني فيها خوف الجنون من انفرادي بك في كفنك، لكي أهدهدك بتهنينة الموت.

***

أكتب لك على ضوء المنور الذي لم أملك عندما شاهدته – ولأسباب تستعصي على الشرح، ربما لعزلته وسكينته وغرابته؟ – إلا أن أتذكر قبرك، وأن أشعر بعزاء أنني أعيش بجانبه وأنا في غرفتي ببيت أمي، وأنني عاجلا أم آجلا سأنضم إلى هذا العالم الصامت الذي خفق له قلبك، عندما كنت تذهبين إلى المتاحف.

[صورة لك، من ظهرك، مفقودة وجاري البحث عنها، في بيت كفافيس، فبراير 2006، يغمرك النور والستائر وأنت تطلين من النافذة.]