في قصيدته المعبأة بالمجاز، حتى بمقاييس الشعر عموما، والشعر العربي خصوصا، إلى حد أن بيتا في قصيدته قد يكون الأكثر صورا على الإطلاق، يقول الوأواء الدمشقي (وقيل يزيد بن معاوية):
قالت لِطيف خيالٍ زارني ومضى
بالله صفه ولا تُنقص ولا تَزِدِ
فقال خلّفتُه لو مات من ظمأٍ
وقلتِ قف عن ورود الماء لم يَرِدِ
هذا الشعر الآن يتلبسه فجأة معنى جديد، شخصي، لا يمت بصلة إلى رومانسيته العذرية واستعاريته اللتين كانتا دائما كثيرتين على هضمي: فجأة أصبح أفضل الأقوال تعبيرا عن كيف يعمل جسدي، رغبتي ذاتها، بالتعاون مع أخلاقي ربما. لو مِتُّ من ظمأ، إلى مائك أو إلى الماء عموما، وإذا لم يكن في المتناول سوى الأول، فاقتربت طالبا إياه، وقلتِ “قف!”، لارتددت من فوري ومِتُّ من ظمأ. لكن من يقول هذا؟ طيف خيال. من سيسأله؟ أنت لن تسألينه. ستسألين خيالا آخر غير الذي زارنا معا أو زار كلا منا على حدة. وأين هو عموما خارج القصائد؟ هل لطيف خيال أن يتكلم؟ وماذا قلت أنت؟ قف؟ لا، بل قف أضعف كثيرا من ذلك على السمع وأكثر توغلا في المجاز والظلال والبين بين. لكنه وقف، ليس فقط عن ورود الماء، وإنما عن طلبه. وليس طيف خيال هو من يقول، وإنما الميت ظمأ. وما حاجتنا اليوم إلى طيف خيال ومجاز وظلال وبين بين ولدينا اليوم آلات لتسجيل كل ما يدور بيننا وحول أشرطتنا الحدودية وروبوتات وصيغ تفاهم روبوتية؟ (لا تُنقِص ولا تزيد؟) وفيم كل هذا التوزيع للأدوار بين عيون ماء وطالبي ماء وكل حروب الماء هذه؟ فيم البحث عن قصة؟ ولماذا اعتقدتُ أن غاية الشرف هي الموت ظمأ؟ لعل غاية الشرف هي الموت ظمأ دون “لو” ودون “قف” ودون ورود ودون طلب. ومن يرد عليّ الآن شرفي؟
***
لا يهم. فعلينا ألا ننسى الخبر الأهم في كل هذا، وألا تنسينا إياه بلاغة الشاعر: كنت بالأمس تتكلمين، وكان طيف الخيال يتكلم، فقط عندما يتكلم الشاعر. أي: كان الشاعر فقط هو من يتكلم. (فقط؟) اليوم تتكلمين، وتنقلين أنت عن طيف الخيال. ولعل ما على الشاعر الوقوف عنه ليس الطلب والورود فحسب، وإنما الكلام أيضا. فهنيئا لنا جميعا—حتى لو كنا نتعجل التهنئة أثناء توزيع جديد دون العدالة والسلام: لعل ماء الغد – إن وُجِد – أن يكون أطيب وأعدل وأشد إرواءً.
***
كنت أغفر لو أنني مِتُّ
ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ
لم أكن غازيًا
لم أكن أتسلل قرب مضاربهم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
أرض بستانِهم لم أطأ
لم يصح قاتلي بي: “انتبه”!
كان يمشي معي..ثم صافحني..ثم سار قليلًا
ولكنه في الغصون اختبأ!
فجأةً: ثقبتني قشعريرة بين ضلعين
واهتز قلبي كفقاعة وانفثأ
«لا تصالح»، أمل دنقل
***
قال رجل آخر، سيد آخر، بل سيد الرجال:
“إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد.”
إهداء: إلى كل المصريين المتعاطفين مع التلميذات المخطوفات في نيچيريا من قِبَل إرهابيي بوكو حرام الذين ارتكبوا مذابح ضد المسيحيين وضد المسلمين غير المتعاونين.
في مطلع الألفية الثالثة يتحلق طلبة بجامعة المنيا حول شاشة كمپيوتر أحدهم ويشاهدون تسجيلات مصورة منوعة مضحكة أو فضائحية أو عنيفة. من النوع الأخير مثلا لقطات لقتل وإعدام بدون محاكمة من الشيشان. ربما لم يكن لهذا علاقة بأن بعضهم يتعاطى العقاقير الكيميائية كما كان رائجا في ذلك الوقت بين الشباب، بقدر ما أن هذه المصنفات كانت منتشرة لسبب ما على الكمپيوترات – في وقت لم تكن الهواتف فيه ذكية ولم تكن سرعات الإنترنت تسمح بتداولها عليه – ضمن الغرائب والعجائب والممنوعات المتنوعة، لكنهم كانوا على أي حال متأثرين.
أحد الڤيديوهات يظهر شخصين أفريقيين داخل حقل، بجوارهما ثالث بخوذة، أحدهما عاري الصدر ومقيد، وعلى شفتي الآخر ووجهه تعبير هادئ باسم واثق بينما يتبادل الحديث بالإنجليزية مع شخص وراء الكاميرا يتحدث الإنجليزية بلكنة أصلية، بينما المقيد يتوسل بلغة غير مفهومة. بعد دقيقتين وأثناء الحديث يطلق الأول النار على رأس الثاني. يصرخ الطالب مصدوما رغم أنه شاهد الڤيديو لأكثر من مرة: “سَكِّته! سَكِّته!”
بعد عشر سنوات، يجلس أحدهم ليبحث عن أصل الڤيديو الذي علق بذاكرته دونا عن غيره، ولم تكن لديه أية فكرة عن خلفيته. وبعد أن بحث طويلا بكل الكلمات المفتاحية المحتملة، وجده. اللقطات من الحرب الأهلية النيچيرية لإعدام بدون محاكمة لرجل مشتبه في كونه جنديا بيافريا، من أرشيف قناة إخبارية أوروبية. وتأتي المشاهدة الجديدة بحوار (كله بالإنجليزية) وتفاصيل مختلفة عما في ذاكرته.
المعدوم في الڤيديو هو ماثياس كانو أثناء مداهمة لقرية من قِبَل الجيش النيچيري الفيدرالي. والڤيديو مرفوع كمحاولة للتعرف على القاتل (برتبة كاپتن) “لكي ترقد روح كانو في سلام.”
في مقال ويكيپيديا الإنجليزية عن الحرب المعنية يلفت نظر الباحث من ضمن قائمة المتحاربين علم الجمهورية العربية المتحدة، الذي ظل اسما رسميا لمصر حتى بعد انفصالها عن سوريا بل ووفاة عبد الناصر، ضمن أعلام عربية أخرى، إلى جانب إنجلترا والاتحاد السوڤييتي ودول أفريقية. وبمزيد من البحث، ومع قلة المصادر بشكل غريب ومريب في زمن انفجار المعلومات–وكلها بالإنجليزية، لم يصل بالعربية إلى شيء تقريبا سوى رسالة جامعية على موقع الأهرام عرضها بطرس بطرس غالي عن الحرب في مجلة السياسة الدولية سنة 1975، دون أن يذكر مصر.
وبالعودة إلى ويكيپيديا الإنجليزية، حيث أغلب المصادر المذكورة هناك في هذا الجانب تعود إلى أبحاث وكتب غير متاحة على الإنترنت بأي شكل، فمن الواضح أن الانفصاليين البيافريين كانوا مرتبطين بشكل ما بإسرائيل (مع فرنسا والبرتغال ودول أفريقية) ومع ذلك فإن قائمة المتحاربين على ويكيپيديا الإنجليزية لا تضع إسرائيل ضمن المتحاربين، على عكس ويكيپيديا العربية التي تضعها ولا تذكر مصر على الإطلاق.
اتخذت الحرب داخل نيچيريا شكلا إثنيا (عرقيا ودينيا وثقافيا في آن، وإقليميا أيضا حيث تقع بيافرا الانفصالية قصيرة العمر في الجنوب الشرقي)، وسرعان ما تحولت إلى قضية إنسانية بسبب المجاعة والأمراض. وفي المجمل أسفرت الإبادة عن سقوط ما يتراوح من مليون إلى ثلاثة ملايين مدني.
وفي حوار جمال نكروما بعد ثورة 2011 مع محمد فايق “رجل عبد الناصر في أفريقيا” ونائب المجلس القومي لحقوق الإنسان بمصر وقت إجراء الحوار، ورئيسه فيما بعد، يقول فايق إن من ضمن التحديات التي واجهتها سياسة عبد الناصر في أفريقيا أنه “عند نشوب الحرب الأهلية النيچيرية بعد انفصال بيافرا ثارت ثائرة أمم أفريقية عديدة متعاطفة مع القضية البيافرية حيال موقف القاهرة الموالي لنيچيريا. واتهم الرئيس التنزاني چوليوس نيريري ونظيره الزامبي كينيث كاوندا مصر بدعم نيچيريا بسبب الانحياز الديني.” لكن أبطال الاستقلال أساؤوا فهم زميلهم المصري، بحسب فايق، الذي يقول إن الأخير أيد “سيادة نيچيريا ووحدتها الوطنية واتصالها الجغرافي”. و”عارض…بضراوة بلقنة أفريقيا”. وبقي أبطال الاستقلال أصدقاء مقربين “بغض النظر عن الاختلافات السياسية” و”كانوا يتحدثون بصراحة شديدة وتبادلنا الرؤى والأفكار بحرية”.
يصدق على الإنترنت بشدة القول المنسوب لهيرقليطس “إنك لا تنزل النهر مرتين”. وفي السنوات الأخيرة بالذات، تتسابق المؤسسات الصحفية والأراشيف الكبرى في نشر رصيدها وإتاحته للجميع على الإنترنت. وهكذا نتمكن لأول مرة من الوصول ليس إلى مقالات عن اغتيال السادات مثلا وإنما إلى نصوص وتسجيلات التقارير الصحفية الواردة من الوكالات والمنشورة والمذاعة في المنابر المختلفة في ذلك اليوم والأيام التالية ومرورا بجلسات محاكمة مغتاليه، إضافة إلى ڤيديوهات كالمذكورة أعلاه خرجت من مكتبات هواة التسجيلات والجامعين أو سربت من العاملين في مؤسسات.
لكن تبقى غريبة قلة المعلومات المتاحة عن حرب أهلية/جريمة إبادة حديثة ومجاعة كبرى دامت ثلاث سنوات على الأقل، ولعلها تشي بقلة المعلومات خارج الإنترنت أصلا. وربما كان من ضمن الأسباب بطء المؤرخين، إذا استبعدنا فكرة التكتم والمسكوت عنه. وبالطبع فإن الصمت لا يخص دور مصر فقط، بل ربما كان سببه الأساسي ضلوع قوى غربية كبرى. ولم ينشر تشينوا أتشيبي (وهو من إجبو بيافرا) مذكراته عن الحرب، “التي طال انتظارها” وفقا لبي بي سي، سوى في 2012، قبل وفاته في العام التالي. وحتى في الأدب، لم تظهر رواية تشيماماندا أديتشي المولودة بعد الحرب سوى في 2006. ومن اللافت أن مترجمتها إلى العربية، بعنوان «نصف شمس صفراء» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009)، هي فاطمة ناعوت، الكاتبة البارزة المؤيدة للسيسي والجيش بعد انقلاب 30 يونيو والمذابح التي تلته والمحبة لعبد الناصر.
يرد ذكر مصر والمصريين مرتين في الرواية. ففي صفحة 425 من الطبعة المصرية يقول أحد الأبطال:
بوسعك أن تخبرهم كيف أننا مستمرون في الصمود منتصرين برغم الميج ال17 النيچيرية وال28 وال29 التي يقودها طيارون روس ومصريون وتقذفنا بالقنابل كل يوم، وكيف أن بعضهم يستخدم طائرات ركاب يدحرجون منها القنابل بخشونة ليقتلوا النساء والأطفال…
وفي صفحة 469، يدعو قس في صلوات الصباح قائلا:
الرب يبارك فخامته! الرب فليعط تنزانيا والجابون القوة! فليدمر الرب نيچيريا وبريطانيا ومصر والجزائر وروسيا! باسم المسيح المقدس!
وفي مذكرات أتشيبي، يرد ذكر المصريين 4 مرات منها مثلا في صفحة 136، تحت عنوان “دماء، دماء في كل مكان”:
وجد البيافريون أنفسهم تحت هجوم كثيف بعد هجمة وسط الغرب. فسيطرت الفرقة الأولى في الجيش بقيادة محمد الشوة، بسرعة، متقدمة مع ثيوفيلوس دانچوما، على مدينة نسوكا الجامعية، ثم قصفت بلا هوادة عاصمة بيافرا بأسلحة ثقيلة. ساعد في العملية العسكرية الطيارون المرتزقة المصريون وهم يقودون طائرات الجيش النيچيري الجديدة البريطانية و…التشيكية و…السوفييتية.
اسم بوكو حرام Boko haram، حيث الكلمة الأولى بلغة الهاوسا والثانية عربية، قد يعني “الفساد حرام” وقد يعني “التعليم الغربي حرام”، حيث كلمة بوكو تحريف لكلمة book. أما كلمة poco فهي اختصار لمصطلح postcolonialism (ما بعد الاستعمار). وقصة مصر في بيافرا ترينا وضعنا بالضبط في ظل ما بعد الاستعمار، وأن ما بعد الاستعمار حرام، حرام يجب إزالته.
[نُشر على موقع المصري اليوم بتاريخ 16 مايو 2014، والجمل بالخط الغليظ تصحيحات تعذر إدخالها هناك وفيما يلي تعقيب رُفض نشره.]
تعقيبات على تعليقات القراء
أثار مقالي بالمصري اليوم (المنشور قبلها بأيام على مدونتي) شيئا من الصدمة المطلوبة عند المكذبين والمصدقين على السواء. وهذا أمر محمود كما أن الإنكار مفهوم (بل وجيد من ناحية فهو يدل على استبشاع الأفعال المذكورة)، وعبادة عبد الناصر أيضا مفهومة. وسأتناول هنا انتقادات الجانبين بدون ترتيب محدد:
القصة كلها مختلقة: في الحقيقة لم أدّع في المقال أنني أكشف أو أفضح أي شيء. وأغرب ما في قصة بيافرا أنها ليست سرا. وكل ما أردت لفت الانتباه إليه هو كيف أصبح تاريخ حرب وجريمة كبيرة كهذه مسكوتا عنه وكيف لا يزال البحث عن حقائقه أمرا صعبا بعد مرور أكثر من 4 عقود. وحتى دور مصر ليس سرا وقد أكدت على الواقعة الغريبة الخاصة بترجمة فاطمة ناعوت الناصرية السيساوية لرواية أديتشي دون أي رقابة، وأن هذه الترجمة للمفارقة صادرة عن الذراع الرئيسية للنشر في الدولة المصرية. وفي هذا المقال بالأهرام والذي لم أذكره في المقال السابق لأنني اكتشفته لاحقا، ونشر منذ أقل من 3 أشهر، يتحدث محمد فائق، “رجل عبد الناصر في أفريقيا” وسبق ذكره في المقال السابق، عن تفاصيل عسكرية أكثر تخص دور مصر وطياريها في الحرب. ولعل ناعوت وفائق لا يجدان غضاضة فيما فعلناه في بيافرا أصلا. ويذكر سعيد الشحات في مقال باليوم السابع من 2010 طرفا من خبر الطائرات الروسية ودور مصر. (للمزيد عن فائق وعبد الناصر وبيافرا راجع رواية مؤيدة لعبد الناصر وتصف العملية “الطريفة” كجزء من “مقاومة الاستعمار” صفحة 241 من كتاب «أحاديث في السياسة والفكر والسلام والتعليم»، محمد صالح المسفر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005، وفي الأسفل صورة منها، ويمكن مطالعتها أيضا على كتب جوجل هنا.)
المعلومات العسكرية عن الطائرات المستخدمة خاطئة وتكشف الكذب: لم أدّع أي خبرة عسكرية (البلد والحمد لله مليئة بالخبراء العسكريين ولست والحمد لله واحدا منهم) ولم أدّع القيام بتحقيق استقصائي. ويمكن لغيري تدقيق هذه المعلومات. وكل معلومة وردت بهذا الصدد أحيل القارئ فيها إلى مصدر كما أن اتفاق المصادر ملحوظ. وجدير بالذكر أنني استبعدت كل مصدر مثير للشك ومن ضمن ذلك المصادر الإسرائيلية. وأخيرا فبدلا من أن يجتهد المكذبون في بيان أي ثغرات متخيلة، دعونا نتفق أن الطيارين المصريين المرتزقة، أو المحاربين بالوكالة إذا كان تعبير “مرتزقة” جارحا للمشاعر، لم يكونوا في كل الأحوال يقودون طائرات ورقية.
المقال يعتمد على ويكيبديا وهي مصدر ضعيف: لم تذكر ويكيبديا إلا في سياق عرض قصتي الشخصية الخاصة باكتشاف الأمر. بل إنني لفتت النظر إلى التفاوتات بين المعلومات المذكورة في النسختين العربية والإنجليزية وكان غرضي من ذلك أيضا التأكيد على فكرة أساسية في المقال وهي: من يكتب التاريخ؟
الغرض من المقال غير واضح: تزامن نشري للمقال على المدونة، وكان قبل ذلك مجرد خاطرة سريعة على فيسبوك من العام السابق، مع ردة فعل عالمية امتدت إلى مصر على اختطاف التلميذات النيجيريات، ومن هنا كان الإهداء إلى المتعاطفين ليزدادوا تعاطفا وفهما من ناحية، ولنختبر حقيقة تعاطفهم من ناحية أخرى. فقبل أن تظهر بوكو حرام بعقود، شاركت مصر في حرب ذات أبعاد طائفية تطورت إلى إبادة الشعب نفسه الذي يتعاطف المصريون معه اليوم. ولهذا ربطت، إن كنت في حاجة إلى الربط أصلا، بين الإرهاب على طراز القاعدة في أفريقيا، وبين حروبها الأهلية، وبين تاريخ ‘أبطال الاستقلال’، فكل هذا يحدث في إطار ما بات يعرف بعملية ووضع ما بعد الاستعمار: الاستقلال الاسمي لمخلّفات استعمار لم يغير إلا شكله القديم. اللعب بالألفاظ على كلمة “بوكو” أكثر من مجرد زينة بلاغية. وحرب عبد الناصر بالوكالة للاتحاد السوفييتي وإنجلترا ونيجيريا في الوقت نفسه توضح ذلك. كما أن تورطه في ذبح المدنيين البيافريين باستخدام طيارين مصريين بعد وقت قليل مما جلبه علينا من نكسة ذات آثار درامية باقية جانب آخر من عبث ومآسي ما بعد الاستعمار، ومن نافلة القول إنه يزيدنا خزيا. والناصرية الرابضة في حياتنا بعد ثورة يناير 2011، والتي انتكست جزئيا على الأقل بسببها، تجعل القصة ذات معنى أكبر وأكثر معاصرة بالنسبة للمصريين، حتى لو اعتبروا جرائم كهذه تسقط بالتقادم.
حداثة سن الكاتب وعدم معاصرته للأحداث: هذه النقطة أتفه من أن نهتم بها، فبداهة أن التاريخ ليس حكرا لمعاصريه وإلا سنلغي باستمرار كل ما حدث قبل أن يولد ويعي أكبرنا سنا! وربما كانت حداثة سن الكاتب عذرا لجهله بالأمر حتى وقت قريب، أما الكبار فما حجتهم؟ وأخيرا فحداثة السن نعمة بفضل الإنترنت، أحد أبطال قصتي، وبفضل معاصرتي لثورة أطاحت بحاكم كان وقت ارتكاب مذابح بيافرا قائدا لقاعدة جوية فمديرا للقوات الجوية فرئيسا لأركان حرب القوات الجوية فقائدا للقوات الجوية، وهو من يُسأل في ذلك وليس أنا فهو بالطبع يعرف الكثير.
هناك شيء محير بخصوص هذا الملصق. فلماذا وبأي منطق في الدنيا تتضامن راقصة مع حملة لحرية التعبير بأن تعلن عن حقها في … الاستماع إلى الموسيقى؟
هذا الملصق هو واحد من سلسلة ملصقات تؤكد على الحقوق المنصوص عليها في المادة 27 من «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، ضمن حملة أطلقتها «المجموعة المصرية للسياسات الثقافية»، في المورد الثقافي. وصاحبة الصورة في الملصق هي كريمة منصور، الراقصة المعاصرة.
ويصور ملصق آخر، أدناه، قبائليين مصريين من البجا (البشارية) يؤدون رقصتهم رقصة الوثب بالسيف. ومهما يكن من فحولة الرقصة، يغفل النص، مرة أخرى، ذكر الرقص.
وهذا ما يفعله أيضا البيان التأسيسي، الذي يُعدِّد أنواع التراث المصري المعماري والبصري والموسيقي واللغوي إلى جانب تقاليد الحياة الاجتماعية. والغياب الواضح هنا للفنون الأدائية يشمل المسرح أيضا، لكن أحد الملصقات، ونصه “من حقي أمثل”، يعوض غيابه جزئيا. حتى مصطلح جامع مثل “الفنون الأدائية” أصبح محكوما عليه من قبل المدافعين عن الحقوق الثقافية في مصر في الحقبة الثورية باعتباره خلافيا أكثر من اللازم.
ولكن مهلا، على الأقل لدينا راقصة متنكرة في هيئة مستمعة قلقة، ومحاربون غابرون يطمئنوننا إلى كيف يمكن لهذا الفعل المسكوت عنه أن يكون رجوليا، وعلى طول الخط لدينا أناس يرقصون … حول الموضوع.
“من حقي أرقص” أخيرا. ربما يكون هو المشار إليه في رد كريمة منصور بما أنه يصور راقص تنورة. لا يوجد على البطاقة البريدية ما يثبت تاريخ طباعتها. ويظل الراقصون بالطبع رجالا في رقصات تقليدية (دينية هذه المرة).
“‘سيسي ليس اسما،` قال السيد جرادجرايند، “لا تسمي نفسك سيسي. قولي إن اسمك سيسيليا.`” (أوقات عصيبة، تشارلز ديكنز)
متى أبلغ أحد عن رقابة فإنه إنما يعني الرقابة القابلة للرصد، قمة جبل الجليد الذي كتلته الأساسية هي الرقابة المستترة، وتشمل الرقابة الذاتية. وزد على ذلك أننا نحن المسافرون دائما ما نفقد رؤية المحيط: التعليم–الحرب الشاملة التي تُشن علينا قبل ما يسمى سنوات التكوين بوقت طويل.
يمكن بشيء من التبسيط النظر إلى كل معركة خاصة بحرية التعبير على أنها مواجهة بين أولئك الذين نجوا بشكل ما من النظام التعليمي وأولئك الذين لم ينجوا. وهذه القضية النخبوية بصورة متأصلة مكتوب عليها الفشل، وليس سببا هينا وضع النخبة كأقلية، علما بأن هذه ليست النخبة التي تتركز في يدها السلطات الحاكمة للمجتمع، والتي تحبذ مصالحها العليا مثل هذا النظام.
وليست هناك حكمة في أن نتوقع مناصرة الجماهير للحرية الفكرية وهم، قبل التلاعب بهم بالإعلام وبالأيديولوجيا السائدة بوقت طويل، مجردون أصلا من ذات الحرية المطلوبة لتعلم تكوين الرأي المستقل وإطلاق العنان للخيال. وفي بلاد متخلفة كمصر، يشيع النظر إلى حرية الرأي والتعبير كمطلب فئوي لا يُعني إلا الأفنديات، الغرباء المغتربين–منفصل عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ولكن ميل أولئك الأفنديات (الحقوقيين، الكتاب التقدميين، إلخ) إلى وضع كل رهاناتهم على مثل هذه المطالب الأساسية ولكن غير الجذرية، إن جاز التعبير، بالحرية الأكاديمية (على مستوى الجامعة) وحرية الصحافة والحقوق الرقمية، يزيد الأمر سوءا بجعل القضية في واقع الأمر تحصيل حاصل، كأن هناك رأي (حر) أو فكر (مستقل) أصلا وكل المطلوب، كل ما هو مهدد، هو فرصة التعبير عنهما.
وهي نظرة شخص جاء متأخرا من شأنه على النحو نفسه االدفاع عن الحرية الجنسية لكائنات تعسة تم إخصاؤها وختانها ختانا جائرا في وقت مبكر وأفلت منهم من أفلت.
(في الصورة: فصل دراسي للبنات في بريطانيا الڤكتورية)
[ هذه تتمة لجزء مبتور من مداخلة في ندوة أقامتها الجامعة الأمريكية حول حرية التعبير لمناسبة إطلاق موقع freespeechdebate.com شارك فيها القائم عليه. وكانت المداخلة بشكل أساسي عن دور النخبة المصرية والجامعة الأمريكية بالذات في تأخير قضية حرية التعبير بسبب ازدواجيتهما.]