أخلاق القرية الذكية

(١) في مصر يشن نقيب الموسيقيين حربا على شاب صاعد النجومية بفضل نوع شعبي إلكتروني سهل الإنتاج، حرب قطع عيش لا مجرد حرب عدم اعتراف باردة، يدعمها المجهود الحربي للجان الرقابة والمهن الفنية لضبط وتمرير ما هو فن وما هو شرعي وما هو صالح وما هو نافع، لتُظهر النظام بصورة عجيبة، ليست معادية للفن والثقافة والحرية بأكثر من معاداتها للسوق والرأسمالية، في بلد يعاني منها حَمُّو وبقية الشباب من التعطل والتخلف الاقتصادي ويُمنعون الآن من اجتراح فرص لأنفسهم وخلق وظائف لغيرهم، وليس بالضرورة ولا بوضوح لأن العمل معارض أو هدام أو منحط، إذ يكفي أن يكون صاحبه غير ملم بالقراءة والكتابة اللازمتين ربما لعضوية اتحاد الكتاب. على غرار روسيا الستالينية وألمانيا الهتلرية ومصر الناصرية يرى هؤلاء نظام بلادهم، رأسمالية (دولة) من نوع أو آخر مخطط مركزيا إلى هذا الحد أو ذاك تحت نظام شمولي يغذي صورة قومية متعاظمة تسير الأمة في ركابها إلى المجد والخلاص أو مجرد البقاء. الفارق الهزلي هنا هو أن السلطات الثقافية لا تعبأ حقا بتحقق أي من هذه الشروط القمعية لتشديد قبضتها: شمولية غير مستوفاة المتطلبات وغير قادرة على المنع الفعلي في عصر الاستنساخ الرقمي ضمن دولة تابعة تماما للأجندة الليبرالية الجديدة.

(٢) في مصر وسوريا بعد ٦٧ تركت الدولة مجالا للفنانين الغاضبين وأعطتهم المؤسسات والأدوات ليصنعوا أفلاما مثلا كما فعل عمر أميرالاي وعطيات الأبنودي وحسام علي (المعرض الزراعي)، على ألا تعرض لجماهير حقا قط. يستغرق الأمر عقودا حتى يدخل الإنترنت وأخرى حتى يتسنى نشرها ثم تداولها (وليس “توزيعها”) عليه، وأبدا فوق ذلك ليكتشفها من لا يعرف بوجود هذا الشيء وهذا العالم، على الأخص بعد تقديم مناسب يحكمه في النهاية مزاج الخوارزميات. تظل في مقبرتها المعروفة بالمركز القومي لتحقق تنويعة غريبة مما أسماه بنيامين “القيمة المعبدية” للعمل الفني في عصور ما قبل الحداثة، مرئية فقط للنخبة المثقفة والغاوين، ولا بأس من أن تعرض من زمن لآخر في نادٍ بل على جمهور رمزي ما ضمن مهرجان مثلا، بلا “قيمة معرضية” حقيقية في زمن الاستنساخ الفائق للآلي.

(٣) في فرنسا ما بعد الكومونة نُبذ مصورون فرنسيون شبان من المؤسسة لأن ما أنتجوه كان بوصف ناقد معاصر “جريمة” في حق الفن (“الشكل”) والأساتذة، لكن أحدا لم يمنعهم من لم الفلوس وتأجير ستوديو وتنظيم ٨ معارض لعقد ونيّف قبل أن ينفرط عقدهم لأسباب تتعلق بالتطور لا التضييق، ولا من الحصول على مقابل (عيني، من دهانات ألوان وقماش لوحات) من شخص وحيد (أب كما كنوه) قبل لوحاتهم ليحاول بيعها. هذه فرنسا المنتصرة إن لم يكن على پروسيا فعلى سلسلة أجيال من الثورات الكبرى استولى آخرها على العاصمة لشهرين، وسيصبح هؤلاء الفنانون المعدمون أساتذة المستقبل غير البعيد (و”الفنانين الرسميين” فيه—غوغان، متنبئا ومتخوفا: مانيه، مونيه، رينوار، …).

(٤) في مصر الآن ليست مصر هي مصر ما بعد ٦٧ المعترفة بهزيمة الحكم العسكري كشرط للتنمية، ولا ما بعد ٣٠ يونيو المطالَبة كدولة من ثورييها الجدد بأن تحارب مرة أخرى (في الداخل هذه المرة، مع استبعاد صوت واحد فقط من المعركة). في مصر تنمو أوهام العظمة الحاكمة الخائفة بجنون ونزعتها للقضاء على كل تهديد محتمل والانتقام من كل تهديد سابق لم ينضم إلى قائمة الأصدقاء، تنمو في فراغ آخذ في أن يصبح كاملا يُسحب منه تباعا كل الهواء والمعنى ولا تحسب القوة التدميرية الصرفة حسابا لغد تجد فيه ما تأكله هي والمؤمنون بها وتنمو كشر ضروري يمت بصلة إلى الحياة الذكية. “وجعانين ميتين”.

“ما تخافش م الكلب، خاف من صاحبه.”

81owaz9kyvl._sl1500_

في الطريق إلى البنك حارس ڤيللا في الحي الراقي العريق يطرطر في وضح النهار تحت شجرة بحذاء السور فيما بينه وبين السيارة الرباعية الفارهة وهو في زي شركته الموردة للخدمات على الرصيف الخالي من المارة.

في البنك عاملة تصور البطاقات ربما أصغر مني أو في سني أو أكبر، “ربما” لأن جمالها الغابر الرشيق من جراء العمل والحرمان جففه الفقر، في تضاد غير مريح مع أناقة “الياقات البيضاء” الشتوية بشبشبها البلدي وقدميها الوسختين وزيها العلوي البرتقالي الذي يعلن اسم الشركة الموردة للخدمات Arab Group for [جزء من الاسم يغطيه حجابها] Services وتحته هذه العبارة الظريفة: Maybe I l<3ve my job ،التي ربما ترجمها لها أحد الياقات.

فيم وجود ومهانة وجود هذا “الحارس” وهذه “العاملة” مع كل هذه الكلاب والكاميرات المصوبة من الأسوار وماكينات تصوير المستندات؟

أقرأ ما تيسر من كتابات ماركس الاقتصادية “الإنسانية” الأولى. يقول البعض إنه فهم القرن التاسع عشر فهما عميقا لكن الماركسيين عجزوا عن تقديم تفسير أو حل يناسب القرن العشرين. بينما يعتقد البعض أن المشكلة أغرب ربما من ذلك: “فهم” ماركس القرن العشرين والحادي والعشرين بأفضل مما “فهم” التاسع عشر.

الثورة (الفرنسية) مستمرة، ربما؟

في الحديقة التي أعدها بعض السكان لتصبح مساحة مجتمعية، فوضعوا أريكتين ودعوا فنانا لنصب عمل فني عام يمثل بالحديد المطلي بالأسود عاملا على دراجة يحمل على رأسه “قفص عيش”، يطلب مني فرد مباحث بدماثة، بعد أن استجوبني وكشف على بطاقتي، أن أغادر لأن الجلوس هنا ممنوع، في هذا المكان المحاط بالسفارات. عدا هذه الحراسات لم أر الشرطة هنا إلا في حملة ضخمة مدججة بأسلحة جديدة لإزالة مشاريع تجارية متناهية الصغر لا تكاد ترى بالعين المجردة في الطريق الواسع الخالي.

في حديقة أخرى مهداة من عائلة أعمال، على أنقاض الحديقة الأصلية التي كانت تستر المراهقين والباحثين عن خلوة حسية وربما متعاطي المخدرات، شباب وربما شابات صغار من أحياء فقيرة جاؤوا للفرجة والاختلاس ومضايقة الآخرين، لا من “المغتربين” ولا ممن يبدو عليهم أنهم من أهل الحي، وإنما على الأخص من الشبان والشابات الصغار الفقراء من أفريقيا السوداء، اللاجئين ربما.

إنه بالرغم من ذلك حي رائع بالتأكيد، ليس فقط للدراجين وأصحاب الكلاب. حي يهرب إليه “القادرون” من الراغبين في اختلاس يطول أو يقصر، في شيء من الحراك وفي شيء من الحرية، وأشياء أخرى جيدة ومتناهية الصغر.

منير ١٩٨٩


هذا الڤيديو من حفلته في كلية الفنون التطبيقية في ١٩٨٩ يكاد يكون المدخل المثالي لفيلم وثائقي عن حياة وزمان ومسيرة محمد منير: لقطات ذات طابع أرشيفي شخصي من شريط ڤيديو منزلي رديء مرفوع على يوتيوب منذ ١٠ سنوات، في ذات المكان الذي تخرج منه قبلها بدستة من السنوات، تحديدا في قسم الڤيديو، وبعد وقت قصير من إصدار ألبومه السابع، الانتقالي، شيكولاتة، يتحدث في الثواني الأولى منه عن الكلية والحرية ومصر والحرب، معلقا على رفض بعض الطلاب (الإسلاميين كما نفهم ضمنا) إقامة الحفلة:

أفكر زملاءنا اللي رفضوا تواجدنا ف الكلية…من حقهم…ومن حقهم يرفضوا دا ويعبروا دا ف صورة…بأي صورة ترضيهم…بس بافكرهم بجيلي أنا واللي موجود منه كتير يعني على ما أتذكر الدكتور محمد الصاوي، الدكتور حسين فهمي، والدكتور عادل الحفناوي، كلهم يتذكروا إن احنا سنة 70 و71 و72 عملنا مظاهرات زيهم. بس الفرق بيننا وبينهم إن المظاهرات دي كانت بتطالب مصر إنها تحارب.

لكن دلالات الڤيديو في سياق محمد منير تعود بالأساس إلى دلالات أكبر للحظة: فمحمد منير في بدء مغيبه هو شخصيا، تماما في اللحظة التي يخطو فيها بعيدا عن مشروعه الطويل الذي خرج معه  إلى النور مع فرقتي هاني شنودة ويحيى خليل، وفي معية مكتشفه وراعيه وملحنه الأول أحمد منيب الذي يعيش أيامه الأخيرة، وبرفقة شعراء عامية مكرسين وشباب وجدوا فيه أخيرا صوتا لهم، متحررا منهم وضائعا في آن معا، وهؤلاء جميعا وبلادهم ومن شابههم في العالم في ذروة لحظة الانكسار والانهزام الكبرى في تاريخ اليسار العربي والعالمي وكذلك العالم الثالث وقوى التحرر:

في البدء كانت الهزيمة. … من نصف السبعينيات الثاني، كانت الحركات الاحتجاجية المولودة في أواخر الخمسينيات… في حالة اضمحلال. وأسباب ذلك شتى… وقد وجدت عملية الاضمحلال هذه التعبير الأوضح عنها…في سقوط جدار برلين. من الواضح أن شيءا كان قد انتهى في حوالي عام ١٩٨٩. المشكلة هي أن نعرف ماهية هذا الشيء ونحدد متى بدأ الشيء الذي انتهى.

(Razmig Keucheyan, Hémisphère gauche. Une cartographie des nouvelles pensées critiques, La Découverte, 2010.)

وفقا لهذه النظرة فإن محمد منير يعتلي المسرح ويلقي كلمته الغاضبة الحزينة الوجيزة البليغة في نهاية دورة كبرى إلى هذا الحد أو ذاك من التاريخ الحديث، بدأت إما: ١- قبل ذلك بثلاثة عقود مع صعود اليسار الجديد على خلفية بدأت تحديدا في موقعين جغرافيين أحدهما مصر (السويس، ١٩٥٦)؛ أو ٢- قبل ٧ عقود مع الثورة البلشڤية، والتي هزت العالم “مبكرا جدا” بما فيه مصر وبقية المستعمرات المتنازع عليها مجددا بنهاية الحرب العظمى، وهذه العقود السبعة تساوي القرن العشرين “القصير” كله بحسابات هوبزباوم؛ أو ٣- قبل قرنين بالتمام والكمال، وبحسابات هوبزباوم كذلك، أي منذ اندلاع الثورة الفرنسية، ١٧٨٩، افتتاح القرن التاسع عشر “الطويل”، والتي سرعان ما ستأتي بناپليون وحملته على مصر والولع به بما في ذلك افتتان مؤسس مصر الحديثة، والمصريين أنفسهم، به.

أقصر الدورات المحتملة إذن تعود إلى ما بعد مولد محمد منير بعامين، وتصل إلى ذروتها في ١٩٦٨، بعد عام من الهزيمة المنكرة لمشروع تحرر الضباط الأحرار، والتي سيطالب الطالب محمد منير وزملاؤه بإنهائها… عسكريا.

(يُتبع)

إلى راقصة

عزيزتي،

تأملي معي سخرية هذا الموقف:

مقابل أربع سنوات لم نر فيها بعضنا البعض أو نتبادل كلمة، يلتقي كفانا لأقل من ثانية لا تكفي لنكوِّن عنها أي ذاكرة ولو قصيرة، ولا تكاد عينانا تلتقيان، ونقول في نفس واحد لا تكاد فيه الكلمة تخرج من حلْقينا: إزيك.

أفكر في عدد المرات التي ذكرتِ فيها اسمي وذكرتُ فيها اسمك في هذه السنوات الأربع. وعندما قابل كل منا صاحب الاسم لم يبادله سوى كلمة واحدة وصداها: إزيك.

ما أعنف اللغة يا عزيزتي. ما أعنفها.

***

في السويعات التالية للقائنا الغريب تواجدنا في المساحة نفسها، وسط الأصدقاء والمعارف، وأحباء آخرين، سابقين وحاليين. وكما نتحاشى النظر إلى الكوارث والمآسي والفظاعات، تحاشينا النظر. عزائي أنني لم ألتزم بذلك، وأنك لم تسمحي لي. إنني دائخ منذ ثلاثة أيام وبقلب خائر بعض الشيء، ولا يساعدني سوى العمل والتأمل والحديث مع صديقات عن الأمر. ولم أفق من سكرتي وسطلتي إلا لأدرك السكْر، التسمم الكحولي، الناتج عن اللقاء، ولأفك شيئا فشيئا شفرة ما وصلني منك، بدون أي كلمات سوى: إزيك.

***

ووراء السخرية، ووقع العنف، وبعد الكارثة، والدوار، والقلب الخائر، هناك سعادة يؤسفني أنني لا أستطيع وصفها، لك على الأقل، لكني سأحاول.

وأنا أشاهدك ترقصين، بل وأشاركك أحيانا – ولا أشاركك – حلبة الرقص، لم أملك إلا العودة إلى ليلتين تفصلهما أشهر قبل أربع سنوات. في الأولى تراقصنا بصدفة عجيبة لأول مرة، وبانسجام غير مفهوم، ومع صباح اليوم التالي كنا نتراسل بدون انقطاع. وفي الثانية تراقصنا، بتوتر، وأنت تعلنين أمام الناس أخيرا أنك مع هذا الشخص، أنها ليست مجرد صدفة في مرقص وسط الأصدقاء. وفي صباح اليوم التالي كنا قد انتهينا.

***

لماذا أنا سعيد إذن؟!

لأنك لستِ فلانة التي عرفتها يا فلانة.

أنا لست أعمى ولا تافها لكي لا أرى الألم. لكنني رأيت أيضا الحرية. القوة. الجمال الذي لم يسمح بسحقه وإيقافه عن الحياة والنمو. رأيت الفتاة التي كانت تكتشف معي جسمها بخجل قاتل كأنه لم يُلمس من قبل، وقد صارت بكل هذا التحرر، الانطلاق، البرِّية. ليس أمام شخص واحد يملكها. صارت تتلامس بكل هذه الراحة مع أصدقائها. الفتاة التي صدمها أن أشعر منذ سنوات في رقصتنا الأولى بشيء يدعوني إلى ملامستها وجس نبضها، قائلة إن هذا يعني كم هي امرأة “يائسة”، محرومة، غير محتفظة بالوقار اللازم لفتاة تحترم نفسها وقيمتها، تُدعى ولا تدعو.

كنت أراك الآن وأعرف أنك، واعية أو غير واعية، تريدينني أن أراك. تقولين لي انظر. أنا أعرف الآن أنني جميلة جدا كما كنت تقول وأنكر ولا أصدق. تطلّب الأمر رحلة شاقة، ومزيدا من الآلام، والخوف، لكنني بدأت ذلك معك. انظر إليّ. اُشعر بالألم والخسارة مرة أخرى. اِتْحَرْقَصْ (كما قالت صديقة سابقة عما فعلته أمام صاحب سابق). ولكن هوِّن عليك أيضا. فرصة سعيدة. شكرا. معلش. وحشتني. إزيك.

***

أنا سعيد أيضا لأننا لم نلتق إلا بعد أن كنت قد كتبت لك، أخيرا، رسالتي الغرامية الوحيدة والمتأخرة، شكرا وعرفانا، وسلاما. (لم أعرف إن كان وصلك كلامي وماذا عساه فعل، ولا تعرفين ربما ماذا فعلت فيّ مشاهدتك، ولن تعرفين ربما إذ لن تُرسل هذه الرسالة إليك.) قلتُ إنني، وبعد زوال الغضب، وتراجع العنف، وانسحاب السم، وعيت على حقيقة كم كان حظي جيدا بلقائك، وأنني أيضا أفضل بسبب ذلك اللقاء، وأن شيئا لم يكن بأيدينا تماما. فما أعنف هذه الحياة يا عزيزتي. وما أقسى هذا القلق الذي ينهشنا، ويضيعنا من بعضنا البعض.

***

3597813311_2f4e5414e2_z

والآن، وإضافة إلى صورتك التي تسكنني منذ أربع سنوات، أنا الهارب من الصور إليها، تطاردني صورتك الجديدة، التي خلقتيها لنفسك من طين الحقيقة الذي ظننتيه وحلا ومن روح الخيالات الضالة في العالم منذ هبطنا من الجنة.

اللعنة على الصور يا عزيزتي. اللعنة على الصور.

“عاوز أتناك كل يوم”

بينما قد تتردد اليد بعض الشيء وهي تكتب الجملة في دفتر صاحبها الخاص، وبين مزدوجين، كتبها “هو” على سور الكورنيش، مرئية وبخط واضح للقادم من قصر النيل إلى ماسبيرو، وإن في مرحلة منه منزوية نسبيا، بمصاحبة رقم هاتف محمول. وقف هنا في وضح النهار أو آخره ربما وكتبها. كان بمفرده أو مع صاحب أو صديق غطى عليه، ولا نعرف إن كان أيضا غار عليه أو منه، كما قد نغار نحن.

بعد خطوتين وابتسامة فكرت في العودة والتقاط صورة. ربما تمحى الكلمات غدا أو قبل غد. إذا بقيت إلى الغد سأفعل قبل أن تمحى بعد غد. فكرت أيضا في الاتصال للتهنئة على الشجاعة، وفي تمويه الرقم إذا نشرت الصورة، بالرغم من “قرار” صاحبه، إذ بمصاحبة الشجاعة قرأت أيضا اليأس والندم المحتمل. لقد اتناك بلا شك وإن كنت أشك كثيرا في أنه اتناك كما يحب، كل يوم.

مساء في طريق العودة وبعد التقاط الصور حلت في أخيرا روح الشكاك التي تبارك بحكمتها وانقشاع أوهامها جيلي. لابد أن الكتابة لشخص (منتقِم) والرقم لآخر (منتقَم منه).

كباريه التاريخ/تاريخ الكباريه: الهِشِّك بِشِّك والحنين إلى الماضي المهزوم

تساءلت مرة على الوسائط الاجتماعية (ولم يشف أحد غليلي) عن حقيقة التياتروهات التي تربينا عليها–بالأبيض والأسود. أحقا كان الناس يذهبون إلى كباريه من نوع خاص يعرض تابلوهات راقصة لنساء كنعيمة عاكف وسامية جمال وتحية كاريوكا أو جيش من الراقصات المصريات والأجنبيات يتوسطهن مغن ككارم محمود أو فريد الأطرش أو محمد فوزي؟ هذه الأوبريتات التي تفرجنا عليها على الشاشة منذ وقت مبكر في السينما المصرية واستمرت نماذج مصغرة ومحورة منها عبر الستينات والسبعينات–أهي مجرد ماضٍ متخيل؟ يهمنا هذا. لأن أسلافنا في المدينة يبدون أكثر استمتاعا بالترفيه الاجتماعي.

في الهشك بشك شو على مسرح سيد درويش (ويا له من مكان) لم نكن لنميز أحدا يتوسط الآخرين على مدار العرض. يحدث هذا بالتبادل وكثيرا ما ترمي عينك هنا أو هناك لترى أشياء تحدث بالتزامن. حتى الراقصة الجهنمية ليست مركز الخشبة. هناك شاشتان مثل نسخة حديثة من صندوق الدنيا تعملان أحيانا كستار لسلويت وتؤكدان في الأغلب (ألجزء الأول العشريناتي بالذات) على الحنين، بالصور والموتيفات، ثم يجن جنونهما لتصبحا قماشتي لوحات (يذكر تربيعهما بجماليات إنستاغرام) لتحريك كيتشي كوميدي.

هذا الحنين لم يكن أبدا خالصا. هو من البداية يتصاعد عبر أكثر من خط ليصيغ بيانات تعبيرية من قطع كألعاب الأطفال، مثلما يدعم قوس الأحجار الجسر لا الأحجار نفسها كما يوضح ماركو بولو لكوبلاي خان وهو يحكي له عن مدن إمبراطوريته التي لم يعرفها: ممارسة النوستالجيا والسخرية منها؛ استحضار الزمن الذهبي ومآلاته المأساوية الكامنة وصولا إلى التابلوه الأحمر الختامي “العتبة جزاز” على إيقاع حزين شارد مهلوس طويل (الأغنية ‘الهابطة’ التي أوّلها البعض كمرثية لسيناء، الصيد السهل وبداية الطريق السائغ أمام العدو)؛ إعادة تجسيد (بشكل غير دقيق تاريخيا ربما، بأريحية لُعَبية وليس بلا مبالاة) لزمن انفتاح ولهو يقوم بها أشقاء أغراب أمام أهله الأصليين ليذكروهم ربما بوقت كانوا فيه أكثر خفة ومرحا برغم كل شيء، أبهج ألوانا، أشد تسامحا–لكنه لهو مقرون بالضياع، بانحلال داخلي في عزلة الفقاعة. لكن هذه الفقاعة ليست في ذاتها شرا بل يحتفي العرض في الأساس بها ويدعونا إليها.

إننا نرى قصة بلا قصة، تسردها مجرد مجاورة هذه الأغاني وأداؤها بهذا الشكل؛ قصة عن الأحلام وسقوطها. ولكننا أيضا ونحن نمارس الحنين نتعرض لترفيه طازج عالي الجودة معاد تصنيعه، يحتفي بالجنسي والمنحرف والهابط والطربي والهزلي، بكل ما حاول الخطاب المحافظ والتقدمي في آن معا كنسه على الأقل خارج قاعة الأوبرا، التي تحولت، ولو لمرة، إلى كباريه زمن جميل ممتد، نعرف فيه أننا لسنا هنا لنشرب وننسى وإنما لنتذكر وننبسط كثيرا ونرتبك أيضا. إن هؤلاء المهرجين هم في الواقع مهربون، كما يسمي سكورسيزي طائفة من المخرجين الأمريكيين العظام (ضمن أربع تقسيمات، أحدها السحرة). لعلنا نقوم مثل لعازر كما قام الجندي المقعد إذ نتداوى بالتي هي الداء كما قال سيد المجون. ودع عنك لومي.

[كتب هذا النص في الأصل كرسالة إلى صديقين حضرا العرض نفسه كجزء من تفكيرنا حوله.]

لقد ناكتنا الحياة

لقد ناكتنا الحياة يا جماعة. وأنجبت منا عيالا، أجنة، جنينا واحدا على الأقل نحمله، نحملها، إلى الأبد. ناكتنا وأنجبت منا ومن الضروري الآن أن: ١- نعترف بأنها ناكتنا وأنجبت منا. ٢- نعترف بالعيال. ٣- نخرج هؤلاء العيال ليلعبوا جميعا في الشمس لأول مرة في حديقة كبيرة جدا ننشئها لهذا الغرض. ٤- نستخدم وسائل منع الحمل من الآن فصاعدا وإلى حين بيقظة تامة. ٥- نتخلص من هذا الفالوس العملاق الذي تنيكنا به الحياة ونضعه في المتحف مع آثار الحضارة. ٦- نبكي ونصرخ طويلا جدا جدا في الحديقة. ٧- نتناك بشكل جديد تماما، بشكل غير حضاري، بشكل لا تحمل فيه كلمة نتناك كل الأحمال التي تحملها الآن.

طوق غرا المقدس: فيلم منهار ومصقول عن حياة منهارة ومصقولة

المعنى المضبوط للحضارة هو حياة المدن. وفي ذروة الحداثة ظهرت سيمفونيات المدن، أفلام وثائقية أو روائية تحتفي بالمدن في لحظات مجدها وصمودها. طوق غرا المقدس سيمفونية عكسية لمدينة تتقوض من داخلها، لحضارة تنهار. ينعكس التشظي وضيق المساحات على بنائه وعلاقات شخصياته وتعامله مع الحيز. لا يعيب الفيلم سوى الأمثولة الشاخصة بشكل مزعج في قصة الحشرات والنخل الذي يزاحم الأمثولة الطبيعية الأصلية الخاصة بالطريق وضحاياه والمسيرة البشرية. اختيار عدم التعليق مثير في معنى وهوية الفيلم الوثائقي لكنه يختار نصف المسافة بين توثيقية صارمة وروح فيلم بركة التأملية الصرفة.

[كتب هذا النص في الأصل ضمن أنشطة ورشة كراسات السيماتيك، دورة بإشراف ريما المسمار. وهو منشور في العدد الأول – والأخير – من مطبوعة الورشة، كمساهمة وحيدة اختارها المحرر.]

«متسللون» (خالد جرار، ٢٠١٢): المدينة كسجن والمستعمرة كحديقة حيوان

كشخص لم يطأ الأرض خارج بلد ميلاده أصبح فيلم بونيويل لعنة محلقة فوقي. ففي «الملاك الهالك»، يُحبس رجال ونساء بورجوازيون داخل منزل مضيفهم بعد حفلة. الأسباب في الفيلم سوريالية وربما رمزية لو قبل بونيويل فك رموزه. أما حالتي فلا هي سوريالية ولا أنا هؤلاء البورجوازيين.

كانت إجابتي التقليدية على سؤال لِم لَم أسافر هي تارة عدم امتلاكي كلفة السفر، وتارة علاقتي المرتبكة والمبتورة بالمؤسسات التي انتميت إليها والتي لم تسمح أبدا بالوصول إلى نقطة تسفيري على غرار الآخرين. بعد الثورة وعيت فجأة على النقص الفادح في هذه الإجابة. إننا لا نسافر أو لا نسافر كما نريد لأن حريتنا في التنقل مقيدة. أصبح هذا طبيعيا بحيث لم نعد نرى فيه حرية مسلوبة. نتحدث عنه فقط في حالة حظر تجول أو احتلال.

في الماضي سافر الفقراء قبل الأغنياء. لهذا قالوا إن “أرض الله واسعة.” و”الرجل تدب مطرح ما تحب.” و”مطرح ما ترسي دق لها.” السفر الآن ميزة. العالم يغلَق. لكن الأيدي لا تتوقف عن الدق. “لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟” إنهم يدقون الآن فماذا حدث؟ في فيلم نرويجي عن الهجرة غير الشرعية وجرائم الشرف يتسلل مراهق كردي في خزان نفط أيضا، لكنه يصل لأن فن الهروب تطور كثيرا.

في المدينة-الدولة أثينا، عاش المواطنون رفاهية مادية وفكرية وسياسية على حساب المستعمرات والعبيد على الهوامش. الضفة الغربية الفلسطينية هي المدينة العكس. المدينة اللادولة للعبيد المستغنى عن خدماتهم. حيث تتقاطع في أذهاننا مشاهد عبور الطريق السريع وجدار العزل مع قوارب المهاجرين غير الشرعيين الغارقة والتائهة والمتربص بها، والمرعبة في كل الأحوال. تتقاطع المدينة مع صورة السجن وخط الموت حوله، الذي أصبح اسمه مصطلحا لمواعيد تسليم العمل النهائي – ديدلاين.

هل العالم يغلي لأننا لم نعد نقبل أو نملك تحمل هذه الحدود؟ من رسمها ورسم علاقاتها؟ بالتأكيد ليس نحن. كيف نحاصر حصارنا؟

في عالم تتمرد على سكانه الطبيعة، يتماهى السكان مع الحيوانات. يطفرون مثلهم حول الأسوار. كما في  «يد إلهية»، حيث يعرف السجين مغمضا أرضه أكثر من الضابط الإسرائيلي – مهما بدا ذلك كليشيهيا إلى حد مضحك أو متغافلا عن حقيقة أن سلطة الاحتلال تملك آلة معرفتها الخاصة الاستعمارية – تعرف هذه الكائنات أرضها كِعَرس الليل، لتخرج من مخابئها وأقفاصها. الشيء الغريزي الحسي الذي تصدره تجربة التسلل الخطرة يقاوم المعنى المهين المتمثل في الحَيْوَنة.

[كتب هذا النص في الأصل ضمن أنشطة ورشة كراسات السيماتيك، دورة بإشراف ريما مسمار.]

تحديث:

IMG_20160528_103011
أوسلو، مايو ٢٠١٦: خطوة صغيرة للإنسانية، خطوة كبيرة لإنسان.

بابل الشابّي وسليم: الحقيقة والخيال وما بينهما

هذا الفيلم العلامة هو بدءا من عنوانه وإعلان مخرجيه الثلاثة الافتتاحي عن رفض الترجمة يسير في مستويين مترابطين لموضوع واحد: حاجز اللغة والاستلاب الإعلامي. فبدلا من تقرير إخباري يختزل في أقل من دقيقتين الساعتين الطويلتين إلى حد العذاب، وبدلا أيضا من وثائقي يلتقط حالات إنسانية من هذا السجن المفتوح على الحدود التونسية-الليبية (وهذه في حد ذاتها معلومة اضطرارية ليست من داخل الفيلم) ويتقصى بشكل بحثي ما وراء هذه الحالة من خروج وانتظار رعايا حكومات مختلفة عالقين، يقدم لنا الصناع ما يبدو للوهلة الأولى مادة خاما تقريبا.

في اللحظة الوحيدة التي يبدأ فيها عامل نيجيري بالكلام عن رأيه في التعايش يشوشر عليه حوار مواز مع عامل آخر. المساواة في الظلم عدل كما تقول الجملة المأثورة؛ إما أن يتكلم الجميع أو لا أحد. (من يمثل من؟)

إننا نعاني (أو المطلوب أن نعاني) أقرب معاناة ممكنة للبشر في الفيلم، ونُحرم من التواصل قدر حرمانهم. لكن ذلك لا يجب أن ينسينا أن التصوير والمونتاج يعنيان الانتقاء حتما. كما أن الصناع يفقدون هم أنفسهم الصبر أحيانا على الصمت فيما يبدو فيسألون رجلا آسيويا عن مصدر الخبز. لكنهم في النهاية ينجحون فيما يرمون إليه من خلال ‘حقيقتهم’ الناقصة بالضرورة.

هذا فيلم تأملي مهم عن الفضاء والسلطة والاتصال (أو بالأحرى انهياره كما تقول أغنية لد زبلن)، بابل لعنة الحضارة هذه المرة لا السماء.

[كتب هذا النص في الأصل ضمن أنشطة ورشة كراسات السيماتيك، دورة بإشراف الطاهر الشيخاوي.]