الاعتصام لا شيء. الاعتصام كل شيء.

  •  في المستوى الأول، يهدف كل اعتصام في ميدان عام إلى خلق أزمة والحفاظ عليها. وجود جماهير في الشارع ليل نهار (يُفترض أنه) يقطع استمرارية الحياة العادية، وقد يشمل ذلك حركة المرور كما في ميدان التحرير، أو وقف العمل كما في مصنع أو مصانع. كما أنه يظل عملية استيلاء، سواء أدار المعتصمون المصنع أو سيروا المرور أم لا، ومهما حاولوا إنكار معنى الاستيلاء الذي ينطوي عليه مرادف كلمة اعتصام الذي يتجنبونه: احتلال.
  • بلجوئها إلى مقار قوات “الشعب” المسلحة تسعى حركة إعلان الحرية والتغيير السودانية إلى التأثير على توتر في الجيش تكسب من خلاله (البعض في) سلك الضباط، ضباط الصف، الرتب المتوسطة، ممن لم يُعرف عنهم انتماء للنظام أو تورط في فساده وانتهاكاته. كما تؤكد على سلميتها كسلاح أساسي: الاستجارة من العنف بمحتكر العنف، بل مطالبته بأن يحتكره أكثر.
  • أكثر من المصنع – والجامعة لاحقا، بعد انتشار التعليم العالي في الطبقات المتوسطة فما تحتها، وهو ما تجلى في حقبة ١٩٦٨، المستمرة إلى الآن وفقا للبعض – يُعد الاعتصام بيئة تركيز نضالي، حيث يلتقي أفراد من الطبقات المَسودة، المحكومة، لأوقات طويلة، في نشاط مشترك ومتكرر، فينمون الصلات والروابط، ويعون بظروفهم المشتركة، ومواطن قوتهم وقدراتهم المطلبية والصراعية، ويتبادلون الخبرة، ويتنظمون. (الاستعارة الكلاسيكية هنا هي أغورا، وهي رفاهية كسبها مواطنو أثينا “الأحرار” بفضل العبيد. لابد من بقاء الاعتصام كمسألة حياة أو موت لأنه ليس أغورا، وما من أغورا، نعود إليها.)
  • من هنا تأتي الطبيعة المتناقضة للاعتصام، إذ من ناحية يشتد عوده وتتفجر إمكاناته ما دام وجوده، ومن ناحية فإن حالة الانتظار التي تَسِمُه مع التأكيد على أهمية النفس الطويل، في حرب الأعصاب هذه، تخاطر بإحداث تململ سريع، على الأخص وأن الاعتصام لا يوقف حقا الحياة العادية خارجه، وإليه يعاود أغلب المعتصمين أنفسهم الرجوع من العمل والبيت إذ لا يريد أحد خسارة وظيفته، ولا وضع رهان شخصي كامل ومطلق على نجاح الثورة.
  • بعد يوم الجمل ٢ فبراير ٢٠١١ لم يَعُد اعتصام التحرير أبدا كما كان. انتهت طوباويته الشهيرة قصيرة العمر ولم يعد أحد فوق الشبهات بعد انتشار شائعات تسلل أفراد لإثارة البلبلة وتفرقة الصفوف، وصودر كل حوار إشكالي أو تساؤل حساس أو إبداء أي تشكك علني أو قلق. كان المطلوب فقط هو رفع الروح المعنوية والصمود إلى ما شاء الله. تكرر الأمر في اعتصامات لاحقة، ففي اعتصام مجلس الوزراء نحو نهاية العام وفي اعتصام يوليو من قبله كان من غير المقبول للبعض طرح مسألة فض الاعتصام للنقاش في اجتماع عام، ما كان يعني الإسراع بتخريبه وتقويضه.
  • في مقابل الإسكات من الداخل كان أي منشور يوزَّع في الميدان يقابَل بلهفة واحترام؛ فحالة الانتظار تشمل أي كلمة أو مبادرة قيادة “من الخارج”، كلمة ينبع احترامها أيضا من هالة الكلمة المكتوبة والمطبوعة مع عدم تشخصُن/تجسًّد المخاطِب في مجرد زميل اعتصام مثلا. وتُختصر الديموقراطية والحاجة إلى الحوار في منصة وجمهور. هذا مظهر واحد لملمح بارز آخر في تناقضات الاعتصام كوسيلة لإملاء الإرادة الجماعية وكحشد ينتظر الأوامر والقرارات. (كان “الخارج” الوحيد المشروع كمصدر للقرار في الاعتصامات التالية ليناير-فبراير هو السماء حرفيا: الشهداء، وأهاليهم بالتبعية كمتحدث عنهم.)
  • مِثل اعتصام التحرير يصبح اعتصام الخرطوم موضوعا لصورة ذاتية يعاد إنتاجها على مدار اليوم في مشاهد وأيقونات وقصص بصرية ورمزية، أكثر منها – في الأغلب، وفي حدود ما يمكن الحكم به من بعيد – تجمعات ومواقف مؤقتة ثورية ترهص بالديموقراطية الجذرية والإبداع الجماعي والتعايش الحقيقي، فعلى هذا المستوى هو لا يمثل سوى لمحة خاطفة عن حياة بديلة ممكنة.
  • التناقض الثالث في أي اعتصام اليوم هو حاجته الماسة هذه لـ”تلفزة الثورة” وما تفعله به هذه “التلفزة” الضرورية. لم يعد السؤال هو هل ستتلفز الثورة، وإنما هل يجب أن تتلفز، أو بمزيد من الاعتدال، كيف تتلفز. وكم كان عبقريا من بيتر واتكنز أن يختار لتجربته السينمائية الفذة في مطلع القرن، عن الإعلام والتاريخ ومسرحة وإعادة تجسيد الصراع، أنجح وأشهر وأهم اعتصام/احتلال في التاريخ، والذي يلخص بدرامية عالية كذلك كيف ولماذا قد يفشل اعتصام/احتلال بسبب التناقض الرابع بين حدود السلمية وحدود العنف: كوميونة باريس.

علّق/ي

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.