عزيزتي،
تأملي معي سخرية هذا الموقف:
مقابل أربع سنوات لم نر فيها بعضنا البعض أو نتبادل كلمة، يلتقي كفانا لأقل من ثانية لا تكفي لنكوِّن عنها أي ذاكرة ولو قصيرة، ولا تكاد عينانا تلتقيان، ونقول في نفس واحد لا تكاد فيه الكلمة تخرج من حلْقينا: إزيك.
أفكر في عدد المرات التي ذكرتِ فيها اسمي وذكرتُ فيها اسمك في هذه السنوات الأربع. وعندما قابل كل منا صاحب الاسم لم يبادله سوى كلمة واحدة وصداها: إزيك.
ما أعنف اللغة يا عزيزتي. ما أعنفها.
***
في السويعات التالية للقائنا الغريب تواجدنا في المساحة نفسها، وسط الأصدقاء والمعارف، وأحباء آخرين، سابقين وحاليين. وكما نتحاشى النظر إلى الكوارث والمآسي والفظاعات، تحاشينا النظر. عزائي أنني لم ألتزم بذلك، وأنك لم تسمحي لي. إنني دائخ منذ ثلاثة أيام وبقلب خائر بعض الشيء، ولا يساعدني سوى العمل والتأمل والحديث مع صديقات عن الأمر. ولم أفق من سكرتي وسطلتي إلا لأدرك السكْر، التسمم الكحولي، الناتج عن اللقاء، ولأفك شيئا فشيئا شفرة ما وصلني منك، بدون أي كلمات سوى: إزيك.
***
ووراء السخرية، ووقع العنف، وبعد الكارثة، والدوار، والقلب الخائر، هناك سعادة يؤسفني أنني لا أستطيع وصفها، لك على الأقل، لكني سأحاول.
وأنا أشاهدك ترقصين، بل وأشاركك أحيانا – ولا أشاركك – حلبة الرقص، لم أملك إلا العودة إلى ليلتين تفصلهما أشهر قبل أربع سنوات. في الأولى تراقصنا بصدفة عجيبة لأول مرة، وبانسجام غير مفهوم، ومع صباح اليوم التالي كنا نتراسل بدون انقطاع. وفي الثانية تراقصنا، بتوتر، وأنت تعلنين أمام الناس أخيرا أنك مع هذا الشخص، أنها ليست مجرد صدفة في مرقص وسط الأصدقاء. وفي صباح اليوم التالي كنا قد انتهينا.
***
لماذا أنا سعيد إذن؟!
لأنك لستِ فلانة التي عرفتها يا فلانة.
أنا لست أعمى ولا تافها لكي لا أرى الألم. لكنني رأيت أيضا الحرية. القوة. الجمال الذي لم يسمح بسحقه وإيقافه عن الحياة والنمو. رأيت الفتاة التي كانت تكتشف معي جسمها بخجل قاتل كأنه لم يُلمس من قبل، وقد صارت بكل هذا التحرر، الانطلاق، البرِّية. ليس أمام شخص واحد يملكها. صارت تتلامس بكل هذه الراحة مع أصدقائها. الفتاة التي صدمها أن أشعر منذ سنوات في رقصتنا الأولى بشيء يدعوني إلى ملامستها وجس نبضها، قائلة إن هذا يعني كم هي امرأة “يائسة”، محرومة، غير محتفظة بالوقار اللازم لفتاة تحترم نفسها وقيمتها، تُدعى ولا تدعو.
كنت أراك الآن وأعرف أنك، واعية أو غير واعية، تريدينني أن أراك. تقولين لي انظر. أنا أعرف الآن أنني جميلة جدا كما كنت تقول وأنكر ولا أصدق. تطلّب الأمر رحلة شاقة، ومزيدا من الآلام، والخوف، لكنني بدأت ذلك معك. انظر إليّ. اُشعر بالألم والخسارة مرة أخرى. اِتْحَرْقَصْ (كما قالت صديقة سابقة عما فعلته أمام صاحب سابق). ولكن هوِّن عليك أيضا. فرصة سعيدة. شكرا. معلش. وحشتني. إزيك.
***
أنا سعيد أيضا لأننا لم نلتق إلا بعد أن كنت قد كتبت لك، أخيرا، رسالتي الغرامية الوحيدة والمتأخرة، شكرا وعرفانا، وسلاما. (لم أعرف إن كان وصلك كلامي وماذا عساه فعل، ولا تعرفين ربما ماذا فعلت فيّ مشاهدتك، ولن تعرفين ربما إذ لن تُرسل هذه الرسالة إليك.) قلتُ إنني، وبعد زوال الغضب، وتراجع العنف، وانسحاب السم، وعيت على حقيقة كم كان حظي جيدا بلقائك، وأنني أيضا أفضل بسبب ذلك اللقاء، وأن شيئا لم يكن بأيدينا تماما. فما أعنف هذه الحياة يا عزيزتي. وما أقسى هذا القلق الذي ينهشنا، ويضيعنا من بعضنا البعض.
***
والآن، وإضافة إلى صورتك التي تسكنني منذ أربع سنوات، أنا الهارب من الصور إليها، تطاردني صورتك الجديدة، التي خلقتيها لنفسك من طين الحقيقة الذي ظننتيه وحلا ومن روح الخيالات الضالة في العالم منذ هبطنا من الجنة.
اللعنة على الصور يا عزيزتي. اللعنة على الصور.
رأي واحد حول “إلى راقصة”