حبيبتي،
حل عيد ميلادك التاسع والعشرين منذ 10 أيام. اطمئنني. لم تبلغيه. مُتِّ دون السابعة والعشرين. أما اليوم فتحل ذكرى لم تعد في تقويم أحد غيري. ففي عصر مثل هذا اليوم منذ 10 سنوات على زهرة البستان صرنا حبيبين. وللسنوات السبع التالية اختلفنا وأنت ضاحكة ومغتاظة حول التاريخ الصحيح، فلسبب ما التبس علي الأمر دائما: أهو 1 أغسطس أم 1 سبتمبر؟ هذه المرة والمرتان السابقتان ليستا استثناءا. الفارق أنك لست هنا لتحسمي لي ولأطمئن لذاكرتك التي وثقت بها كما وثقت بك في كل شيء، أكثر بكثير مما وثقت في نفسي.
***
أنا لا أعرف بالضبط معنى أن أكتب لك الآن. كل ما أعرفه أنه ليس خاليا تماما من المعنى. أنت لست هنا لنتأمل معا ونثرثر في دقائق الأشياء. ولكن أتعرفين ما هو الشيء الأقسى؟ صدقيني، مهما كانت المنافسة شرسة على القائمة (ودعك حتى من الأشياء بالغة القسوة وانعدام الإحساس إلى حد مضحك التي قالها لي وأمامي الممرضات والتمرجية باعتبارك جثة)، الأشد قسوة بلا منازع هو أنني أنسى تفاصيلك. منذ قليل شممت بين النوم والصحيان ما تخيلت أنه رائحتك. لا أشكو من أنني حُرمت من الاحتفاظ بها أطول وقت ممكن في ملابسك. فربما كان الأدق أنني نجحت في نسيان تفاصيلك. هل يخفف فداحة الأمر أن أضيف كلمة “بعض”؟ أليس نسيان تفصيلة واحدة من جسمك فادحا بما يكفي؟ ألست محقا في أن أعتقد أحيانا أن من الحماقة والشر والعبث أن نحب على هذا النحو؟ وهل تخلصت حقا وإلى الأبد من أعراض الانسحاب الخاصة بافتقاد لمستك وصوتك وصورتك الحية؟
***
عندما كنت تذهبين إلى المتاحف، كان يهزك أكثر من أي شيء منظر الأدوات المنزلية اليومية ولعب الأطفال؛ فكرة أن هذه المعروضات التاريخية القديمة كانت يوما في مطبخ وغرفة نوم وفناء، وكان للمرأة والطفل أسماء وحيوات كاملة وتفاصيل وقلوب تخفق وأيام تسير. وعندما ذهبت أنا إلى البيت بعدك للمرة الأولى، جربت للمرة الأولى أن أرى وألمس أشياءك وآثارك وأنت لست في العالم. لكنك يا هند لست إنسانا مجهولا من التاريخ. (ما زلت لا أعرف كيف كنت قبلك وفي الحقيقة أين أنتهي أنا وتبدأين أنت.) فكرت أن أقيم لك مزارا خاصا من مكتبتك ودبدوب طفولتك وكوبك وأدواتك وضاعت الفكرة. هل يضيع شيء؟ وهل ينجو شيء؟
***
بعد أن رحلتِ كنت مصرا باستماتة على استعادة كل شيء والحفاظ على كل شيء. لكنني توقفت بسرعة ويأس. الآن أريد أن أبدأ بصبر واستسلام وتحدٍِ في أن أسجل كل شيء؛ كل تفصيلة بدت تافهة وهامشية، أن أجمع كل ما يتعلق بمن أنت وكيف كنت وماذا حدث معك، كما يفعل المؤرخون. وبعناد أستعيد مرارا اللحظة التي انتزعني فيها خوف الجنون من انفرادي بك في كفنك، لكي أهدهدك بتهنينة الموت.
***
أكتب لك على ضوء المنور الذي لم أملك عندما شاهدته – ولأسباب تستعصي على الشرح، ربما لعزلته وسكينته وغرابته؟ – إلا أن أتذكر قبرك، وأن أشعر بعزاء أنني أعيش بجانبه وأنا في غرفتي ببيت أمي، وأنني عاجلا أم آجلا سأنضم إلى هذا العالم الصامت الذي خفق له قلبك، عندما كنت تذهبين إلى المتاحف.
[صورة لك، من ظهرك، مفقودة وجاري البحث عنها، في بيت كفافيس، فبراير 2006، يغمرك النور والستائر وأنت تطلين من النافذة.]
صباح ٢٩ مارس استيقظت على توقع فترة البكاء الصباحية حين تفتح عينيك فتتذكر أن العالم تغير. اكتشفت أنك لم تعد فجرا. قمت متوقعة تغير في الحالة اليومية وقبل أن تصل قدمي للأرض بدأ بكائي الطويل واكتشفت أنني أبكي هند، حتى بكاء الأيام السابقة لم أكن أبكي فحسب معك كما كنت أظن. غير ذلك الصباح الكثير. رغم غضبي لتأكيدي عليهم أن تبيت معنا، اكتشفت أنك اختفيت وسط الجنون لأدرك أنني أبكيها، لآخذ فرصتي أبكيها بعد المرة الأولى التي تسللت فيها في المستشفى مستغلة البالطو الأبيض حين احتضنتها وحدي، وقتها بدت أنانية أن يفكر أحد في حزنه، كان دور الأصدقاء أن يبكوا معك ويذكرونك بالطعام وضرورات الحياة، حتى صدقت أنا أننا نبكي حزنك، إلى أن أتى ذلك الصباح المفاجئ.
وها هو صباح مفاجئ جديد بنفس البكاء.
أنت تعلم أنني لا أخشى البكاء.
أيامها، منذ خطوت المستشفى صباحا جمعت كل تفاصيل الجنون ووضعتها في مكان محفوظ لئلا يخدعني العالم يوما بأنه متعقل. وقت مستقطع يرسله القدر حين يغلق شباب عائلة قُتل أخاها غرفة الثلاجات فأبقى بالداخل، لا يجرؤ أحد من الموظفين على التنكيد بينما أجلس جوارها وأسألها إن كانت رأت النور، أصلح بالقلم اسمها المكتوب خطأ، أضع يدي على جبهتها، رأسها مائل قليلا كإنها غافية. الموظف مشغول بالأسلحة البيضاء عن تغطية وجهها الذي كشفته. يُطمئني ذوو الأسلحة: “اطمني يا دكتورة واقعدي مع أختك زي ما إنت عايزة، إحنا برضو أخونا مات وحاسين”. أفكر إن كان بإمكانهم تركنا هنا للأبد.
بين من كانوا يصرون أن تهدأ، كنت أصر أن تبكي.
بين من كانوا يشدونك بعيدا، كنت أدفعك إلى هناك.
وأفعلها الآن ثانية، وصلت لمرحلة تالية للحداد ومبدئي كما هو:”اسع الى منبع نهر الألم”
أتمنى ألا يكون بودا على خطأ.
وتفاصيل أخرى كثيرة ليست للكتابة المفتوحة انسكبت كلها الآن، محفوظة كذاكرة شريط سينمائي. ليست معلومات، صور متحركة واضحة، مكتب الطبيب الشرعي، عز، الورق الضائع، أصرخ في خالد وننادي كلنا:”عز” في ظلام ليس فيه ما يخيف.
J’adore
لاني بحسّ ما في كلمة تانية بتقول برومانسية و لطف و شغف شو بدي قول عن هالتدوينة
قام بإعادة تدوين هذه على maha's place.