إني رأيت أفضل عقول جيل الستينات وقد دمرها الجنون

(1)

يتجرع شباب الثورة مرارة الخيانة وصدمتها؛ لقد خذلهم أساتذتهم من المناضلين القدامى والمثقفين الكبار، فبعد أن ساهموا في كبح الثورة، وقفوا دون مواربة مع الفاشية الصاعدة. لكن التفسيرات لا تخرج عن بطاقة تعريف ‘تقدميًُّو الدولة’ بتنويعاتها وفكرة صراع الأجيال. وما يغيب عنهم هو الأفدح: أنهم أنفسهم مرشحون لتكرار السقوط المدوّي نفسه، برغم كل الفوارق والمميزات التي لصالحهم، وبرغم تجربتهم الفريدة. وذلك ببساطة لأنهم لم يسألوا بجدية: ماذا حدث للأساتذة وكيف أصابهم ما أصابهم؟

(2)

منذ بضع سنوات، جلس مثقفان كبيران حقا في كافيتيريا المجلس الأعلى للثقافة، بعد ندوة عن ما بعد الاستعمار. كانا تقدميّيْن وإن كان أحدهما على يسار الآخر بمسافة، لكنهما اتفقا أن لا حل للمشكلة–وأن هذا لا يعني إنكارهما، أو حرمانهما من، “لذة النقاش”. لقد تحول السيدان بعد ثلاثة عقود في حظيرة الدولة للمثقفين إلى دودتي كتب، إلى كلبي فلسفة، إلى حيواني سياسة، لا أمل عندهما ولا إيمان ولا حل، لكنهما كعقلين متطورين يقتاتان على الفكر.

(3)

المناضلون القدامى مثقلون بتجربة هائلة، بنضال حقيقي دفعوا ثمنه ملاحقة وسجنا وتعذيبا وخسائر لا تعد ولا تعوض. لكن خسائرهم الأكبر التي لم يدركوها أبدا جاءت فيما بعد، عندما وصلوا إلى ما اعتقدوا أنه الحكمة: انقشاع الأوهام الدفين بإمكانية الثورة، كل ثورة؛ بأنهم قاموا بواجبهم وآن لهم أن يرتاحوا، أن يهادنوا النظام بمعناه الواسع، أن يغيروه أحيانا من داخله، أن يتماهوا معه دون أن يفقدوا ذواتهم، أن يحافظوا على الخير والنور الباقيَيْن ويدافعوا عنهما ويحموهما، أن يصلحوا قدر المستطاع بالشروط الجديدة وعلى مهل، وإلى الأبد، وأن يعزوا أنفسهم بالكتب والأطفال ولَوْك السياسة والتاريخ وتحليل الأخبار وحب الحياة.

(4)

وفي هذه الأثناء، يحدث ما لا يحسب المناضلون القدامى حسابه ويكادوا لا يدركونه، فهم يتورطون أكثر فأكثر مع المنظومة؛ تتماهى مصالحهم مع مصالحها؛ يصبح الثوري مثقفا وموظفا؛ زوجا وأبا وأما؛ مواطنا وزبونا؛ يحارب من جبهة المحامي والحقوقي والكاتب والحزبي والمهني؛ تتحول حربه مع النظام التي لا غبار عليها إلى جزء من الحرب اليومية في إطار تنافس ديموقراطية السوق، داخل دولة القانون التي تبتلع الصراع وتبرّده في دولابها العتيد الرهيب، ويتشظى نضاله إلى أنشطة لا تخرج أبدا عن قواعد المعارضة، حتى إن بدا غير ذلك، وتوحي له المكاسب وكذلك المقاومات المختلفة لنضاله بأنه لا يزال على طريق الثورة.

(5)

وفي هذه الأثناء أيضا، يكبر أبناء وبنات المناضلين الكبار، البيولوچيون والمنتسبون؛ يُربَّوْن في البيت كما يربَّى الأطفال في كل بيت مع فارق نوعي ما؛ يندرجون في مدارس النظام؛ يلقَّنون مبادئ التعامل مع المنظومة: التوازن، الحسابات، الحلول الوسطى؛ تضج عقولهم ونفوسهم بالتناقضات الصارخة، بالماضي المجيد والواقع الأنكر؛ يحلمون بالثورة التي بشر بها الأساتذة وينتظرون مثلهم أن يتغير المجتمع؛ يساهمون في ذلك بما تيسر ويتمايزون عن غيرهم ويحاولون الاتساق مع أنفسهم وأن يؤدوا دورهم في متابعة المقاومة؛ يحبون الوطن كما يعرفونه من الصور؛ يشاغبون أساتذتهم بينما هم واقعون في أَسْرهم وهواهم وضائعون في ظلهم. إنهم، مهما يكن، أبطالهم. يكرهون الشرطة والدينيين والرأسماليين، لكنهم كما ورثوا عن أساتذتهم ذكاءهم وعداواتهم القديمة، ورثوا مصالحهم الجديدة.

(6)

المناضلون القدامى مسمومون بهزائمهم التاريخية وشكهم العميق في جدوى ما فعلوه وحقيقة ما حلموا به. إن انتظارهم الدهري يقودهم إلى استعذاب القصص والاعتزاز الزائد بالانتصارات الصغيرة، إلى التطلع لأن يثبت الزمن حكمتهم مقابل هذا الفصيل أو ذاك، وإلى الرضا بسقف أوطى لا يجلب ذل الخيبة. ألم تتحسن المنظومة بفضل نضالاتهم الطويلة المتعاقبة؟ أليس الطريق طويلا لا يزال قبل التحول الكبير؟ وهم في تخبطهم العظيم وترنحهم كالسكارى وإحداثهم جلبة تليق بعقولهم الفذة وتجربتهم الضخمة يصيبون تلامذتهم بداء الضمير الملوث بحزن الكبرياء الجريح، بجنون التمزق بين الاغتراب والتماهي، وبين التجاوز الإعجازي والسقوط في ورطة المصالح والاحتواء. إن الملاحقات والسجون والتعذيب لم تمر عليهم مرور الكرام. إنهم لم يتداووا من ذلك أبدا. إن تلك أشياء قد تُفْقد العقل.

(7)

يحمل المناضلون بالضرورة أعباء خرافية. فمهامهم الفائقة للعادة تعني أنهم يقومون بوظيفتهم الثورية كأفراد نيابةً عن الجماهير الغفيرة، وفي انتظار تلك الجماهير الغفيرة. وفي لحظات الشك اللعين واليأس المطبق والقبضة الخانقة ينمو الجنون شيئا فشيئا: هل حدث حقا ما حدث؟ أما نراه حقيقة؟ أهناك من سيأتي بالفعل؟ وكما سيشعر تلامذته فيما بعد، يترنح هو منذ وقت طويل بالخيانات. إن الثوري الذي يحتكر الثورة، بنبل لا يغير من حقيقة الاحتكار، لن يغفر أبدا لنفسه وللآخرين. إن الثوري المهزوم المعتزل كائن مشوه، ضحى تضحيات فادحة بما في ذلك تضحيات بروحه، وهو لا يدفع ثمن التوقف عن التطور بالاندثار قبل أن يُلحق تدهوره الضرر بكل زرعه في دراما صامتة بالغة العنف.

(8)

تأتي كل ثورة لتجيب على أسئلة قديمة، لكن سؤالا واحدا يبقى لا إجابة له فيما مضى وإلا لما جاءت ثورة جديدة من الأصل: كيف يتغير العالم؟ كيف نقطع مع الماضي؟ كيف يختفي الظلم؟ كيف تتوقف البشاعة؟ كيف نسعد؟ لكن اللحظات العالية تنحسر حتى قبل أن يستوعب النظام الصدمة. فشروط الانحسار كامنة في المنظومة—النظام الأكبر، النظام بمعناه الواسع، الحقيقي. تعود الجماهير إلى بيتها لتعيد ما كان؛ تذهب إلى العمل وتشتري وتبيع وتلتمس الأمان، ويهرع التلامذة عند التقاط الأنفاس لاستيعاب ما فاتهم من دروس الماضي الجليل الذي طالما راود أحلامهم المراهقة: انتفاضات الطلبة والعمال والانقلابات الوطنية وإسقاط الجبابرة؛ الأغاني الجماعية وسحر الانصهار العلوي في الجماهير؛ إخضاع السماء والتاريخ والأقدار وإيقاف الزمن. يصبح لكل ذلك فجأة معنى وتدب فيه الروح. لكن اللحظة تنحسر بغدر وتفلت من القبضة البطولية، ويعود النهر إلى مجراه وديعا منكسرا بعد أن فاض في دورته الطبيعية، ويتم ترويضه أكثر. يكمل التلميذ دورة حياة الأستاذ وفي لحظة منها ينوء الأول بخيانة الأخير ويجن الثاني بتمرد الأول. يعودان ثملَيْن إلى الضفاف الموحشة الرتيبة بعد أن ذاقا من جديد نشوة اكتساح الأمواج لكل شيء وتبشيرها بأرض جديدة.

(9)

في كل ثورة يبرز، إلى جانب ممثليها الحقيقيين، رجال من طابع مغاير. بعضهم، من جهة، مشتركو الثورات السابقة وعابدوها الخرافيون ممن لا يعرفون مغزى الحركة الراهنة بيد أنهم لا يزالون يحتفظون بتأثير في الشعب لأمانتهم المعروفة للجميع ولشجاعتهم أو لمجرد قوة التقاليد؛ وآخرون هم مجرد زُعَّاق يرددون، العام تلو العام، تصريحاتهم المألوفة ضد الحكومات القائمة ويلقبون لذلك بلقب ثوريين من الدرجة الأولى، هذا من جهة ثانية. وبعد 18 آذار (مارس) ظهر أيضا رجال من هؤلاء وتسنى لهم أن يلعبوا دورا بارزا في بعض الأحيان. وقد عرقلوا الحركة الحقيقية للطبقة العاملة بقدر طاقتهم، تماما كما عرقل رجال من ذلك الطراز التطور التام لجميع الثورات السابقة. إنهم شر لا مناص منه؛ ولا يمكن أن يطرح هؤلاء جانبا إلا مع مضي الوقت ولكن ذلك الوقت ما كان في حوزة الكوميونة.

كارل ماركس – «الحرب الأهلية في فرنسا»، 1871

(10)

كل ثورة تقوم، نجحت أم لم تنجح، تفعل ما يمكن تسميته كسر الحلقة الجهنمية، الحلقة التي كانت تحول دون قيامها أصلا: الخوف، الانقسام، الشك، غياب الوعي… لكن الحلقة لا تنكسر حقا إلا بالاستمرار المرير؛ بتأبيد اللحظة الفائقة للطبيعة وتعميقها بحيث تتخلص من عفويتها وطبيعتها الزائلة. لكن الجذور ضعيفة حقا على عكس جذور المنظومة الضاربة الغائرة في نفوس الثوار أنفسهم، الذين يحاربونها على أرضها وبشروطها. وإذ تنحسر الجماهير يجن جنون الثائر الجديد بينما يقفز جنون القديم إلى مستويات جديدة، صعودا وهبوطا بين ذروة الأمل والثقة وقاع اليأس والشك. يعودون كلٌّ بِطَريق إلى لعبة احتكار الثورة؛ يصبح هذا ناشطا وهذا سياسيا؛ يهرولون في دهاليز السلطة والقانون ليمارسوا أدوارهم الواضحة المعروفة منتهزين الفرص وموازنين بين الضمير والأمان؛ يحاولون هدم الدولة ثم يهبون لإنقاذها مرتعبين؛ يشاركون أعداءهم الغناء للوطن؛ يناقشون الثورة على التليفزيون وسط الفقرات الإعلانية أثناء سقوط شهداء جدد، ويشاركهم النقاش لص الثورة وجلاد الثوار؛ تهولهم قلة عددهم بعد كل فرز جديد؛ يتوقف بعضهم عن الغناء للوطن؛ ينمو وعي أكثرهم، لكنهم يعودون إلى المدرسة والجامعة لا ليحتلوها وإنما ليتخرجوا ويعملوا ويتزوجوا؛ يسب بعضهم دين الجماهير ليتهمهم رفاقهم بالكفر بالجماهير التي صنعت الثورة، ويظل هؤلاء وأولئك على السواء أفنديات، يمارسون علاقاتهم الاغترابية وإنْ بروح جديدة منتعشة ومثقلة بالخبرة الأليمة بعين حالمة وعين سئمة؛ يقدسون شهداءهم ويتآكل إيمانهم بسواهم وتختلف مذاهبهم في عبادتهم؛ يمارسون الدروشة حول أيقوناتهم المجنحة؛ يصبح أهالي الشهداء آل البيت الجدد الذين سيوسعون رقعة الثورة، وأبطال (مدرجات) الكرة نجوم الدوري العائد بمباركتهم ثم شهداء المذابح الجديدة (في المدرجات) ثم أصحاب الأرواح المطالبة بالقصاص في المحاكم وتحقيقات الشرطة والنيابة؛ ينقضون على كل عدو إلا الذي خرجوا إلى لقائه؛ يستنسخون سلطويته في أبنية حركاتهم وأحزابهم وعلاقاتهم؛ لا يجترحون بديلا وحيدا على الأرض يرهص بمجتمع أحلامهم؛ تهرول فلولهم في حرب استنزاف طويلة وراء المعتقلين وضد القرارات وفي طريق الانتخابات والاستفتاءات، وفي ألف مناسبة يائسة لاستحضار المعجزة من جديد؛ يضخون اقتصادهم في صناديق اكتتاب عبثي لدفع الكفالات والرشاوى؛ يكتئبون كما تريد لهم المنظومة ويبتهجون كلما أفرج عن مسجون؛ ويصبح أفضلهم عدميا أو إيجابيا. وتنبذهم الجماهير، وينبذهم النظام، وينبذون بعضهم البعض، لأنهم في الحقيقة، مثل أساتذتهم، لم ينبذوا أنفسهم بأنفسهم. وخلال كل تمرداتهم الصغيرة على الأجيال السابقة، لا يأخذون الثورة معهم إلى المنزل، إلى الحياة اليومية، بعد أن تركوا ما كان سيصبح أسرتهم الجديدة من ثوار الشوارع. وبينما يستيقظ الوحش الذي أقلقوه، يصبحون أساتذة، وينتظرون الثورة الجديدة.

cohnbendit1968
“الثورة…كم أحببناها!”

5 رأي حول “إني رأيت أفضل عقول جيل الستينات وقد دمرها الجنون

  1. بينما يستيقظ الوحش الذي أقلقوه، يصبحون أساتذة، وينتظرون الثورة الجديدة.

  2. مقال مهم جدا ..
    والكتابة جميلة ورايقة .. فكرني بكتابة الغالي هاني درويش

علّق/ي

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.